من فيلتمان إلى مالي.. هل دخلت المنطقة في الحقبة السوداء مجدداً؟

2021.02.04 | 00:26 دمشق

79f8de9abdadc9294bfc9227ff76fbeb.jpg
+A
حجم الخط
-A

غالباً ما تنطوي السياسة الخارجية الأميركية على كمّ هائل من التناقضات لأسباب عديدة منها ما هو داخلي وآخر خارجي. تلك التناقضات تفسح المجال أمام الذهاب إلى تحليلات كثيرة حول خلفيات المواقف، وطرح أسئلة إذا ما كانت سياسة الولايات المتحدة تتغير بتغير الأشخاص، أم أن المسار الذي تفرضه الدولة العميقة هو الذي يبقى قائماً ومستمراً.

حتى الأشخاص الذين يتولون مناصب في الإدارة تتضمن مواقفهم جانباً من التناقض، وأبرزهم جيفري فيلتمان، الذي سرت معلومات عن احتمال تعيينه مبعوثاً أميركياً إلى سوريا، فيما استبعدت معطيات أخرى أن يحصل هذا التعيين.

كان لفيلتمان قبل أيام مواقف لافتة ومهمة حيال الملف السوري والسياسة الأميركية التي وصفها بالفاشلة تجاه سوريا. جاء كلامه بالتزامن مع نشر مركز دراسات بيغن السادات تقريراً تناول اللقاء الذي عقد بين وفدين إسرائيلي وسوري في قبرص.

وبحسب ما يشير إليه التقرير، كانت وجهة النظر السورية واضحة، حول الحاجة إلى الحصول على مساعدات لأن الأزمة الاقتصادية الخانقة لا يمكن تحملها وقد تؤدي إلى تداعيات أمنية. ويفيد التقرير بأن النظام السوري رأى أنه لا يمكن التخلص من النفوذ الإيراني من دون التخلص من الديون لأن إيران منحته مبالغ مالية طائلة، وللتخلص من الديون هناك حاجة للعالم العربي ودعمه والعودة إلى الجامعة العربية، وهذا لا بد أن يرتبط بتفاوض مع إسرائيل.

مما لا شك فيه أن النظام السوري جاهز لتقديم أي تنازلات للإسرائيليين، لكنه لن يكون قادراً على توفير أي مقومات للخلاف أو الصراع مع الإيرانيين، أولاً هو لا يريد ذلك، وثانياً حتى لو أراد يفتقد القدرة على ذلك، بسبب التغلغل الإيراني الهائل في المجتمع السوري والمناطق السورية، من خلال عمليات تملك وتجنيس وتشييع واختراقات أمنية في مخلتف مؤسسات النظام. لا بد من التنبه إلى أن النظام الخبير في لعبة التسويف والرهانات على التحولات الدولية والإقليمية بتناقضاتها، لديه رهان أساسي في ظل ولاية جو بايدن، وهو حصول مفاوضات إيرانية أميركية، يستفيد منها إلى جانب مفاوضاته مع الإسرائيليين لتحسين موقعه والبحث عن فرص لإعادة تعويمه دولياً. يراهن الأسد على أن تؤدي المفاوضات الأميركية الإيرانية إلى تخفيف العقوبات التي يتعرض لها، فيلتقط أنفاسه ويكسب المزيد من الوقت.

مما لا شك فيه أن النظام السوري جاهز لتقديم أي تنازلات للإسرائيليين، لكنه لن يكون قادراً على توفير أي مقومات للخلاف أو الصراع مع الإيرانيين

من جهته يقول فيلتمان في تعليقه على السياسة الأميركية الفاشلة في سوريا، إن المخاطر التي تهدد النظام هي الضغوط الاقتصادية، ومن غير الممكن أن تقوم سياسة واشنطن على تغيير النظام، وهذا يعني أن فيلتمان يطرح على النظام نوعا من المقايضة بين تخفيف العقوبات مقابل تقديم تنازلات، على الرغم من قناعته أن النظام السوري لن يقدم أي تنازلات حقيقية تتعلق بالإصلاح السياسي أو إطلاق المعتقلين، والأهم في ما قاله فيلتمان إن الإيراني لن يخرج من سوريا، وهناك مسار طويل، هذا الكلام يكفي للرد على كل الرهانات التي يبنيها البعض بأن الانفتاح على النظام وتقديم الدعم المالي له سيؤدي به إلى الخروج من الحضن الإيراني. بمعنى آخر أنه حتى لو تم منح الأسد 20 مليار دولار فلن يكون قادراً على إخراج إيران من سوريا.

يمثل جيفري فيلتمان شخصية إشكالية كبيرة في السياسة الأميركية، فهو من أكثر الخبراء بالوضع السياسي في المنطقة، لا سيما عندما كان سفيراً في لبنان، واكب أبرز التحولات التي شهدتها المنطقة، وهو الذي كان شاهداً ومواكباً لانحسار النفوذ السوري في لبنان لحساب النفوذ الإيراني، وواكب ودعم أيضاً انتفاضة 14 آذار اللبنانية ضد النظام السوري وحزب الله، وصولاً إلى حدّ المواجهة العسكرية التي عندما اندلعت انكفأ الأميركيون والأوروبيون ولم يدعموا حلفاءهم بل تخلوا عنهم، ما أدى إلى تعزيز دور حزب الله ونفوذه وفتح الطريق أمام السيطرة الكاملة. السياسة نفسها اتبعت من قبل الولايات المتحدة في سوريا عند اندلاع الثورة السورية.

فيلتمان نفسه الذي كان من أشرس المعارضين لإيران والنظام السوري، تبين فيما بعد أنه صاحب الدور الأبرز انطلاقاً من موقع في الأمم المتحدة بالعمل على المفاوضات بين واشنطن وطهران حول الملف النووي، وكان من أبرز العاملين في سبيل توقيع الاتفاق، وبالإمكان العودة إلى لقائه الشهير مع المرشد الإيراني علي خامنئي وكل ما قاله فيلتمان عن مزايا هذا اللقاء في حينها.

 إشكالية أخرى مطروحة حول السياسة الخارجية الأميركية وهي تعيين روبرت مالي مبعوثاً من قبل البيت الأبيض لإيران، مالي معروف بتأييده لإيران وتعاطفه معها، ومن أبرز المعارضين للثورة السورية، وهو الذي عمل سابقاً بقوة على خطّ المفاوضات الأميركية الإيرانية للوصول إلى الاتفاق النووي، وجوده وحده يكفي لأن يتشاءم معارضو النظام وخصومه، ويشعر بالخوف، بينما آخرون يعتبرون أن تعيينه في منصبه تمّ لأنه لا يحتاج إلى موافقة من الكونغرس، مع الإشارة إلى أن الكونغرس لم يكن بالإمكان أن يوافق عليه، وتعيينه يأتي بسبب انتماء مالي إلى اليسار المحسوب على أوباما والذي يتمتع بعلاقات قوية مع الإيرانيين، بعض الأميركيين يعتبرون أن التعيين له أسباب داخلية أميركية، فيما لن يكون للرجل أي أثر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في إيران، خصوصاً في ظل مواقف وزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي والبنتاغون.

 في أحد الردود على المتخوفين من المسار الجديد للسياسة الأميركية، ثمة من يستعين بالإجابة إلى نجاح ترامب في إلغاء كل المفاعيل التي أرساها أوباما، أولها الانسحاب من أفغانستان والعراق، وتحسين العلاقة بدول الخليج وبتركيا، بينما خاض أوباما مجموعة حروب، حرب اليمن، الحرب على داعش، بينما ترامب أرسى مبدأ الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط. كل هذه المواقف يراد منها الإشارة إلى التناقض في السياسة الأميركية عندما تتغير الإدارات. ولكن بحال استمر بايدن في سياسة الانكفاء والانسحاب، فإن ذلك سيؤدي إلى تكريس نظرية الفراغ الذي يحتاج لطرف يملؤه، هذا الدور الذي تطمح إليه فرنسا إيمانويل ماكرون، فيطرح الرئيس الفرنسي العودة إلى مفاوضات الاتفاق النووي بمشاركة الدول الإقليمية وهو يقصد السعودية، يريد ذلك لتمرير صفقات أسلحة إلى السعودية وليتمكن من تكريس دوره في المنطقة بالرهان على علاقته مع إيران والسعودية معاً. هذا كله يقود إلى أن السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط لا تزال غير واضحة.

 عندما أعلن دونالد ترامب عن نيته في توجيه ضربة إلى إيران لم يفعل وبقي مساره التصعيدي مرتكزاً على العقوبات الاقتصادية والخطابات فقط، بينما كان يؤكد أنه لو أعيد انتخابه فسيذهب إلى اتفاق مع طهران، الذهاب إلى هذا الاتفاق لا تختلف عليه الإدارات، ما يعني أن بايدن أيضاً يريد الذهاب إلى توقيع اتفاق. وعندما أعلن ترامب عن نيته باغتيال الأسد في العام 2018 بينما رفض وزير الدفاع حينها جيمس ماتيس فهذا يؤشر إلى دور الدولة العميقة في الولايات المتحدة والتي تتقدم على الأشخاص ومواقفهم.

بالنظر إلى المزيد من التناقضات، كان يقال سابقاً إن أمن الخليج من أمن أميركا، ولكن عندما ضربت السعودية لم تقم الولايات المتحدة بأي خطوة، وهذا لا يمكن إلا أن يستمر في مرحلة جو بايدن، ودول الخليج تعرف ذلك، لسببه اندفعت إلى تعزيز العلاقات مع إسرائيل. وسط قناعة بأن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط مستمر. خلاصة التعيينات والمواقف والتناقضات، ستسهم في إعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة، دول الخليج وتركيا ومصر لن تكون على وئام مع واشنطن ما سيدفعها إلى التقرب من بعضها أكثر، ستبقى العين على مناطق النفوذ في سوريا والتي ستتعزز أكثر فأكثر انطلاقاً من الحماسة الأميركية لدعم الأكراد، إيران ستتشبث أكثر في مناطق نفوذها ومكتسباتها ولن تكون أبداً مستعدة لتقديم أي تنازل، ولو أدى ذلك إلى إعادة إنتاج تنظيم داعش للعودة إلى محاربته على غرار ما حصل أيام أوباما وتقاطع المصالح الإيرانية الأميركية التي فتحت الطريق أمام توقيع الاتفاق النووي. ستكون المنطقة أمام حقبة سوداء متجددة.