من سيرة آل الأسد: سجناء فوق العادة (2)

2021.01.04 | 00:00 دمشق

1557449751.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين خرج نُمير من سجن صيدنايا بداية الاستعصاء، صيف 2008، نُقل إلى سجن عدرا ثم إلى سجن السويداء المركزي، بعد أن أتقن الاستثمار في السجون وتوزيع الحصص على الضباط والأعطيات على عناصر الشرطة في جهاز يشتهر بفساده. وطيلة السنوات التي قضاها هناك لم يتغير عليه شيء سوى اندلاع الثورة واكتظاظ السجن بدعاوى المتهمين بالإرهاب بسبب مشاركتهم فيها. ومن المعروف لمن عبر سجون النظام في تلك السنوات أن موقف الشبيحة كان تأييد الأسد واتخاذ مسافة عن معارضيه السجناء على الأقل، إن لم تدفعهم عوامل الطائفية أو تملق السلطة إلى اضطهاد الثائرين.

لا نعرف بالضبط دافع نمير للاعتداء على أحد المعتقلين السياسيين، إن كان يحتاج إلى سبب أصلاً! لكن هذه الحادثة، التي جرت في أول نيسان 2016، دفعت جناح المحكومين من المحكمة الميدانية إلى التمرد، لينضم إليهم باقي سجناء الثورة عموماً، وتبدأ المملكة بالاهتزاز إثر تدخل أجهزة أمنية أخرى للتحقيق في شبكة الفساد المتكاملة التي كان يديرها، ولا سيما إثر حصول عصيان آخر تحدث ممثلوه عن الأطعمة منتهية الصلاحية التي يبيعها لهم بأسعار خيالية، والتي أدت إلى حالات تسمم وانتشار أمراض معوية.

جرت تغييرات في إدارة السجن. وتقرر نقل نمير الذي اختار سجن طرطوس. لكنه وجد برقية في انتظاره عندما وصلت دورية «السرگلة» التي تنقله إلى حمص، تقضي بإعادته إلى دمشق وإيداعه في سجن عدرا. يقول نمير بمرارة: «ابن عمي رفضني!».

ينتمي سليمان إلى فرع فضيّ من العائلة إن جاز التعبير، أقرب بكثير إلى جناحها الحاكم. أبوه هلال كان قائد الدفاع الوطني في اللاذقية و«شهيده الهمام»

لم يكن «ابن العم» هذا سوى سليمان. أما إيضاح درجة القرابة بين السجينين فيحتاج إلى خريطة معقدة!

ينتمي سليمان إلى فرع فضيّ من العائلة إن جاز التعبير، أقرب بكثير إلى جناحها الحاكم. أبوه هلال كان قائد الدفاع الوطني في اللاذقية و«شهيده الهمام». وقد أسهم هذان الاعتباران، وغيرهما، في حصوله على مراعاة ما. أولاً بتقديمه إلى محكمة الجنايات العسكرية لا إلى المحكمة الميدانية. وقد حكمت الأخيرة على الآلاف بالإعدام نتيجة اعترافات، منتزعة بالإكراه، بقتل أحد من أفراد الجيش مهما كانت رتبته. في حين حُكم على سليمان بالسجن لعشرين عاماً، تم أخيراً تقصيرها بعد أن أسقط ذوو العقيد القتيل حقهم مقابل دية، وأمكن أن يستفيد من ثلاثة مراسيم عفو صدرت بعد الحكم. وأفلح هذا التراكم في اختصار المدة إلى خمس سنوات قضاها محتجزاً، وإن لم يكن سجيناً مضطهداً كالآخرين.

منذ توقيفه عام 2015، إثر جريمته والاحتجاجات العلنية عليها ضمن الطائفة، اختار سليمان أن يبتعد عن سجن اللاذقية، حيث يمكن أن يجد الكثير من أعدائه، ويُحتجز في طرطوس، حيث يقبع في سجن صغير هادئ استطاع تأمين احتياجاته فيه بشكل مرفّه. فأقام في غرفة خاصة حوت كل ما يحتاج إليه من مفروشات وراوتر خاص ليتابع صفحته على فيس بوك ويتوعد الشامتين، وشاشة متصلة بطبق ستالايت ليزجي وقته، ناهيك عن أنواع الطعام والشراب والحبوب المخدرة، فضلاً عن خدمات خاصة بنقل إحدى سجينات الدعارة إلى غرفته لبضع ساعات في الليالي التي لا يكون فيها المدير موجوداً. فقد أغدق سليمان بكرم على الجميع، دون أن يستطيع رشوة هذا العقيد الذي كان يصارع ضباطه محاولاً الحد من تفشي الفساد، في جولات متبادلة من رجحان إحدى الكفتين.

في أواخر تشرين الأول 2016 ضبط المدير شرائح موبايل كانت في طريقها لسليمان الذي طفح به الكيل وقرر الإطاحة بخصمه نهائياً، فبدأ استعصاء في طابق السجناء الجنائيين، موّله بكمية وافرة من «الحبوب» التي هيّجت الجميع فخلعوا الأبواب وفتحوا المهاجع وطردوا الشرطة. أما معتقلو الثورة، الذين كان عددهم نحو 150 من العدد الإجمالي للنزلاء 550، والذين وجدوا أنفسهم في قلب الاستعصاء، فشاركوا فيه بحذر وبعد تلكؤ.

تولى سليمان وبعض حاشيته التفاوض. تحدثوا عن سوء الطعام والتهوية والنظافة، مركّزين حملتهم على المدير. وبهدف حل الوضع زعم مسؤولو الأمن الجنائي ووزارة الداخلية أنه سيقال. اطمأن سليمان، ولا سيما بحضور عمّيه هارون وهائل كضامنين لسلامته مع مفاوضي النظام، وعاد إلى السجناء ليطلب فك الاستعصاء ففوجئ بمطالب جزء مختلف من «ثواره». إذ لم يكن المعتقلون السياسيون مهتمين بتغيير المدير ولا بتحسين ظروف سجنهم، بل طلبوا مقابلة وزيري العدل والمصالحة الوطنية لإبرام صفقة تقضي بإخراجهم إلى المناطق المحررة بإشراف الصليب الأحمر الدولي، أسوة باتفاقات مماثلة حصلت في سجون أخرى وتم فيها إطلاق سراح أمثالهم من معتقلي الثورة.

من عام 2016، ولأربع سنوات تلت حتى خروجه في 2020، أمضى سليمان أيامه في غرفة خاصة في جناح المشفى، جهّزها بكل ما يلزم كالمعتاد

أسقط في يد سليمان، لكنه «قائد الاستعصاء» والمعبّر عن المطالب المتنوعة لكل المشاركين فيه، حتى لو كانوا من معتقلي «الإرهاب» الذين طالما تسلى بضربهم قبل ذلك! فعاد لإعلام مفاوضيه الحكوميين بالمطالب الجديدة. وكان على رئيس شعبة الأمن السياسي، اللواء ديب زيتون، أن يكون طرفاً في هذا المشهد الغرائبي وأن ينتظر صحو سليمان لينهي هذه المهزلة ويُعتقل رؤوس التمرد الذين سيدفعون الثمن دعوى جديدة بارتكاب عمل إرهابي، ونقلهم إلى سجن عدرا في أواخر تشرين الثاني.

منذ ذلك الوقت من عام 2016، ولأربع سنوات تلت حتى خروجه في 2020، أمضى سليمان أيامه في غرفة خاصة في جناح المشفى، جهّزها بكل ما يلزم كالمعتاد، منفقاً الكثير من المال ليحصل على كل ما يريد.

أما نمير، الذي وصل قبله إلى عدرا، فحاول تكرار أدواره المربحة السابقة في استثمار «الندوات» حتى دس منافسون له تهمة ترويج المخدرات فنُقل إلى جناح المعاقبين، حيث صنع من تنكات الزيت الفارغة فرناً بدائياً يخبز فيه صواني اللحم والفروج والخضار، التي يعدّها السجناء، لقاء أجر زهيد. ويعيش بانتظار أن ينتهي المؤبد، الذي حُكم به، بطريقة ما..

كلمات مفتاحية