من سيرة آل الأسد: سجناء فوق العادة (1)

2020.12.27 | 23:03 دمشق

00.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليلة الخميس الفائت توقف قلب أم نمير بعد ثمانية وخمسين عاماً لم تكن سعيدة على العموم، رغم جمال شبابها وزواجها من آل الأسد. فبديع، الذي اقترن بها كزوجة ثالثة، كان مجرد صف ضابط بسيرة متعرجة من أقصى حواشي العائلة، بعيداً عن مراكز القرار والنفوذ والثروة. وقد توفي تاركاً إياها أرملة مبكرة، دون إرث تقريباً، سوى شابين جالبين للمتاعب؛ فأكبرهما نُمَير عرفته سوريا كلها بحادثة السطو المسلح على شركة الهرم للحوالات مطلع 2005. وهو، منذ ذلك الوقت، يتنقل بين السجون. أما عزيز، الألطف مزاجاً وكانت مشكلاته من عيار أخف؛ فلم يتقن من الحياة سوى قيادة الدراجات النارية مرتفعة الثمن. وقد لحق مسار أخيه عندما ألقي القبض عليه أواخر 2019 وطيلة ستة أشهر صعبة من هذا العام، حتى خرج بعدها.

نشأت مسألة مخالفي القانون من العائلة في وقت مبكر من حكم حافظ الأسد. وانتقلت من حالة الانتهاكات الفوضوية المتباهية والرعناء إلى ما يصح وصفه بالجريمة المنظمة خلال عقد السبعينيات

يصعب على السوريين، من معارضي حكم آل الأسد وأكثر مؤيديه، أن يقتنعوا أن أحد أفراد هذه العائلة قد يدخل السجن بمعنى جدي لمدة معتبرة. يبدو هذا في الروايات المتكررة عن إطلاق سراح نمير، أو تهريبه بتمثيلية مفترضة تخلقها شائعات غير صحيحة. كما ظهر عند الإفراج عن سليمان هلال الأسد قبل أكثر من شهر، بعدما سجن خمس سنوات إثر قتله ضابطاً في الجيش نتيجة خلاف على أولوية المرور، في حادثة معروفة أخرى.

نشأت مسألة مخالفي القانون من العائلة في وقت مبكر من حكم حافظ الأسد. وانتقلت من حالة الانتهاكات الفوضوية المتباهية والرعناء إلى ما يصح وصفه بالجريمة المنظمة خلال عقد السبعينيات. في البداية كلّف الرئيس شقيقه الأصغر رفعت بضبط مشكلات الشبان المتمردين. غير أن أبو دريد وجد في هذا الملف باب رزق واسع افتتحه هؤلاء بتهريب الدخان وغيره من البضائع من لبنان، فأشرف على العملية وقسّمها حصصاً واحتكر الكتلة الكبرى منها لنفسه. ثم كانت قضية الأقارب محل تدريب أولي على السلطة وإعلانها وسط العائلة فالطائفة، خاصة باسل ثم بشار وأحياناً شقيقهما ماهر.

بمرور السنوات كانت العائلة تتسع وشجرتها تتشعب، كما «أعمال» أفرادها التي تجاوزت التهريب إلى فرض الإتاوات والتشليح والاستيلاء على الممتلكات وبسط الحماية مقابل شراكات مفروضة في التجارة والمقاولات والمعاملات الجمركية. وفي الوقت نفسه كانت الكنية تُستَهلك والقرابات تتباعد والصِلات تخبو. ففي حين كان آباء الأجيال الأولى من شبيحة العائلة إخوة لحافظ ذوي دالّة عنده يستطيعون التدخل بالاعتماد عليها لتخليص أبنائهم؛ فإنه من المستبعد أن يكون بشار قد التقى يوماً بنمير أو بقراباته اللصيقة، فضلاً عن أن يكون على معرفة من أي درجة بسليمان. فالأول حفيد عزيز، الشقيق الوحيد لجد بشار، علي. والثاني من جيل خامس من العائلة التي ينتمي بشار إلى جيلها الرابع. ولم تجمعهم الجغرافيا المتوزعة على القرداحة واللاذقية ودمشق.

ومن هنا انتقل التعامل مع الأقارب مخترقي الأنظمة هؤلاء، الذين يزعمون أن لهم شراكة في السلطة لأنهم «أبناء عم» الرئيس، من لفلفة المشكلات، أو تأديبهم أمنياً بعيداً عن الأعين الشامتة، إلى تسليمهم لمقصلة «القانون» الذي يعمل ويُعطّل على طريقة ON/OFF.

غير أن الموضوع أعقد من ذلك أيضاً، إذ يبقى لدى المخالفين المسجونين ما يقولونه ويفعلونه.

بعد القبض عليه سيتصرف نمير كفرعون. عرف ذلك نزلاء سجن دمشق المركزي (عدرا) وقتئذ، في مرحلة سيطرة شبيحة متآزرين على السجن الأكبر في البلاد بالاستثمارات المشروعة والتجارات غير الشرعية التي تصل إلى المواد المخدرة. في حين كانت الحصص التي توزع على الضباط تجعلهم في موقع أخفض من مكانة كبار مساجينهم هؤلاء. ورغم ذلك فقد قاد نمير استعصاء في السجن استمر لأيام في الشهر الأول من 2007. وعندها صدرت الأوامر بتأديبه في المنفردات ونقله، مع أركان تمرده، إلى سجن صيدنايا العسكري.

وصل نمير، مصحوباً بدزينة من الشبيحة، إلى هناك في خريف العام. وأودع في «جناح العرفي» الذي يحوي، في العادة، سجناء مدنيين أوقعهم سوء الحظ في قضية أحد أطرافها عسكري، ويقضون، بموجب القانون العرفي، أحكاماً لا تتجاوز عدة أشهر غالباً. كان هؤلاء في محنة عارضة، يتلقون زيارات أسبوعياً من أهاليهم الذين يغدقون عليهم المال. وهنا كان الصيد الذهبي.

فمن غرف الجناح، التي تبلغ عشراً، احتل نمير، وجماعته، ثمانية. وحشر عدداً يتراوح بين 250 إلى 300 سجين عرفي في الأخيرتين والملحق. صادر، بالقوة، كل ما في حوزة «العرفيين» قليلي الخبرة بالسجون. بدأ بتأجيرهم البطانيات التي يخصصها السجن لهم، وببيعهم الصابون العسكري الذي يوزعه المساعدون. أتاح لهم الاتصال الهاتفي بمبلغ باهظ للدقيقة وأجّرهم مساحة من ممر الجناح للنوم بعيداً عن الزحام لمن شاء.

كان السجن في حاجة إلى وصلة فساد بين طاقمه وبين المعتقلين فصار نمير هذه القناة على أوسع نطاق. خصص إحدى الغرف الثمانية كمستودع لبضائعه المتكاثرة، بعد أن كان قد جعل إحداها مطبخاً وأخرى «نادياً» بطاولة بينغ بونغ وثالثة لسهرات جماعته والباقي لسكنهم. من «العرفي» راحت السلع تتحرك إلى كل الأجنحة. ونتيجة حذر المساعدين والرقباء الفاسدين، ومن فوقهم الضباط حتى المدير، من تلقي الرشاوى من المعتقلين الجهاديين، الذين كانوا أكثر السجناء السياسيين عدداً، فقد تكفل نمير بذلك دون حرج، بدءاً بتأمين المصاحف وسجادات الصلاة وأعواد السواك، مروراً ببيع الملابس والأحذية الرياضية التي كان المعتقلون السلفيون يستهلكونها أثناء الإعداد المستمر، وصولاً إلى عِدد ممنوعة كانوا يستخدمونها في ورشات صناعات خشبية لكنها ستفيدهم عند حدوث الاستعصاء القادم، كنصلات المنشار ومفكات وبانسة وفرد تثقيب وسكاكين متعددة المقاسات.

بمجرد حصول استعصاء صيدنايا الشهير، في تموز 2008، بحث كثير من السجناء عن نمير ليقتلوه أو يأخذوه كرهينة بسبب كنيته

كان أبو عبيدة متبضّع الجهاديين لدى نمير. وهو محمد العمادي الذي سيُقتل بغارة جوية أميركية بريف إدلب عام 2017، باسم «أبو جابر الحموي»، القاضي في «هيئة تحرير الشام». لكن هذا ما يزال في علم الغيب، ولم يكن نمير يهتم إلا للمال الذي جرى بين يديه بغزارة، حتى حوت غرفته شاشة عرض بلازما وتجهيزات كهربائية وموبايلات ومشروبات كحولية وحبوباً مخدرة وحشيشاً، وكانت الوجبات تصل إليه ساخنة من الخارج.

بمجرد حصول استعصاء صيدنايا الشهير، في تموز 2008، بحث كثير من السجناء عن نمير ليقتلوه أو يأخذوه كرهينة بسبب كنيته. لكن أبناء دعوى تهريبٍ من حمص أخفوه حتى صحِبه أبو البراء، حسن صوفان، عضو لجنة السجناء المفاوضة، وسلّمه سراً للجنة النظام المقابلة التي اشترطت إخراجه قبل الشروع في أي كلام. وهنا بدأت أولى معالم شقاق الإسلاميين الصيدناويين وفق درجاتهم المتصاعدة؛ بين من سيصبح في حركة أحرار الشام، التي سيقودها صوفان بعد التبادل عليه آخر 2016، ومن سيصير في جبهة النصرة أو تنظيم داعش.

كلمات مفتاحية