من حكاياتنا المسلية

2020.02.03 | 23:12 دمشق

153718987369178471.png
+A
حجم الخط
-A

سيرتنا ليست مملة. إننا نسرد فصولاً مما كان يحدث على أرض الواقع في سوريا التي تحكمها عصابةُ حافظ الأسد.. ومن المسلي طبعاً أن يبدو كل واحد من هذه الفصول أغربَ من سابقه، وألعن.

سأحكي لك، عزيزي القارئ، حكاية افتراضية: مُخبر، من إحدى المدن السورية، كَتَبَ تقريراً أكبر من ملحفة اللحاف بحق مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في محافظته لأنه لم يقبل أن يوظف زوجته حاملةَ الشهادية الإعدادية بوظيفة تحتاج إلى شهادة جامعية. ذكر المخبر في التقرير أن المدير المعني يقبض رِشَاً من المواطنين، ويتاجر بالحشيش، ولا يوظف فتاة أو سيدة إذا لم ينل منها وطراً، ويذهب بسيارته الخاصة إلى بيروت ليلاً، يلعب القمار في الكازينو، ويعود، وبين الحين والآخر يسافر إلى قبرص ويلتقي بعض الصهاينة، ويتآمر معهم على السيد الرئيس، وهو يعمل الآن مع لبنانيين مشبوهين على تشكيل تنظيم سري يعمل على قلب نظام الحكم في سوريا. 

أنت، بالطبع، لن تستغرب لو أخبرتك بأن هذه الحكاية حقيقية وليست افتراضية، ليقينك بأن باب كتابة التقارير في سوريا مفتوح على مصراعيه، وستُحَدّثُ نفسك بأن بعض ما كتبه المخبر في تقريره قد يكون صحيحاً، وبالأخص بنود الرشا، والحشيش، وابتزاز النساء، ولعب القمار، وأما بقية التهم فيمكن نفيها بسهولة، خاصة إذا أبرز ذلك المدير لأولي الأمر، أثناء التحقيق، جوازَ سفره الذي لا يوجد فيه ما يثبت مغادرته البلاد إلى قبرص أو إلى غيرها، وأنه لم يعبر الأمن العام على الحدود السورية اللبنانية قط.

أما رئيس فرع الأمن الذي يرده هذه التقرير فقد يهتم به، ويوثقه، ويحقق فيه، وقد يرميه في الفَرَّامة، ومن المحتمل أن يستدعي المديرَ المذكور إلى مكتبه، ويختلي به، ويُطلعه على التقرير، مقابل أن يحصل منه على منافع شخصية، ثم يرمي التقرير في الفرامة بحضوره، ويكون، بذلك، قد سجل عليه دالة كبيرة، إذ أنقذه من مدخل إلى عالم الأهوال.  

ولكنّ هناك نوعاً من التقارير لا يوجد بشأنها -كما يقولون في التعابير الدارجة- (غَبَّرْتي كَلَّسْتي)، فهي خطيرة جداً، (وعلى القَتل). وقد سمعنا عن هذه التقارير حكايات مرعبة، منها، مثلاً، واحدة تتحدث عن الطالب الجامعي "سين" الذي كُتِبَ بحقه تقرير في سنة 1979. جاء في التقرير أن "سين" متعاطف مع تنظيم الطليعة المقاتلة، وربما تبرع لهم بعشرين ليرة سورية، وقبل أن تأتي الجهات المختصة للقبض عليه تسرب إليه الخبر، فـ شَمَّع الخيط وهرب إلى تركيا، ومنها إلى باريس.

ولكنّ هناك نوعاً من التقارير لا يوجد بشأنها -كما يقولون في التعابير الدارجة- (غَبَّرْتي كَلَّسْتي)، فهي خطيرة جداً، (وعلى القَتل). وقد سمعنا عن هذه التقارير حكايات مرعبة

فتح ذلك الهروب المبكر من سورية للشاب "سين" أبواب السعد، إذ أكمل في باريس دراسته الجامعية، وعينوه في وظيفة مهمة في شركة خاصة، ونجح في عمله، وتطورت أحواله، فترك الشركة وصار مالكاً لمؤسسة خاصة فيها عمال وعاملات وموظفون وموظفات، وكانت له أكثر من سكرتيرة باريسية من اللواتي يلفظن حرف الراء بطريقة توقع الطائر من عالي السماء، وآمن الرجل، هناك، بقيم الحرية، والديمقراطية، بل إنه خطا قليلاً إلى الأمام فصار علمانياً، ومن ألد أعداء التنظيمات الدينية الراديكالية، ومنها الطليعة المقاتلة بالطبع..

ولكن العيش في المجتمعات المتقدمة لا بد أن يعود بالضرر على الإنسان، ويسبب له نوعاً من الغفلة، ويزين له الأشياء القبيحة.. وهذا ما حصل عندما شعر، في سنة 1993، بالحنين إلى الوطن، وقرر أن يأتي في زيارة خاطفة، يزور خلالها قريته، ويطمئن على صحة والديه.. وتخيلَ، بسبب الغفلة، أن التقرير القديم قد طواه النسيان، وأفقده تغيرُ الظروف أهميتَه، بل إنه أصبح سخيفاً لا يستحق غير الإلقاء في الفرامة، وفي أسوأ الأحوال، إذا سئل عن التعاطف والتبرع المزعومين سيقول لهم إن هذا يعود إلى أيام الولدنة، وسيشرح لهم كل شيء عن التغيرات التي طرأت على شخصيته.. ولمزيد من الاحتياط اصطحب معه في رحلته فريقاً من الشبان والشابات الفرنسيين اللذين يشتغلون معه، واختارهم ممن توحي أشكالهم بالكثير من التمدن، وكان قد أوعز لسكرتيرته الخاصة بأن تحجز للفريق كله في أحد الفنادق الفخمة التي كانت السلطات السورية تبنيها حينما كان الشعب السوري يذوق المر والعلقم على أبواب المؤسسات الاستهلاكية، ففعلت..

وجاء سين، ضمن هذه الأبهة والعظمة، إلى دمشق، استقبله جنود الأسد المطعمون على بغال في المطار، ومعهم التقرير القديم، وسحبوه من بين مرافقيه كما الشعرةُ من العجين، وأنزلوه إلى الأقبية التي كانت "مريم كوك" تخلع نعليها حينما تمشي في دمشق لئلا تدوس على أجسادهم، وكما تتوقع عزيزي القارئ، أماتوه تحت التعذيب!