من حفرة التضامن إلى شاطئ طرطوس.. الفعل واحد والفاعل واحد

2022.09.29 | 04:51 دمشق

من حفرة التضامن إلى شاطئ طرطوس
+A
حجم الخط
-A

هل يمكن النظر إلى حادثة غرق مركب اللاجئين الأخير قبالة ساحل طرطوس على أنها مجرد قضاء وقدر؟ هل يمكن لوم الضحايا على اختيارهم رحلة الموت تلك؟ هل يمكن اتهام المهرّب وحده بارتكاب تلك الجريمة أو التسبب فيها لأنه لم يهتم بجودة القارب وتوقيت الرحلة، وراح يتاجر بحياة الناس؟

كل الدلائل تشير إلى أن هذه الواقعة هي جريمة متكاملة الأركان، وتم ارتكابها عن عمد وعن سابق إصرار وتصميم، جريمة لا تستهدف أشخاصاً بعينهم، بل تستهدف السوريين الناجين من البراميل والصواريخ والكيماوي، الناجين من التهجير القسري الذي اعتمده النظام منذ بداية الثورة، والذين يقضون اليوم في ظل سياسة التهجير القسري الجديدة التي تتخذ طابعاً تطوعياً.

إنها مجزرة جماعية تضاف إلى رصيد الجرائم التي تم ارتكابها منذ العام ٢٠١١ من قبل نظام الأسد، ولا تحتاج إلى كثير من الجهد والبحث الجنائي لتحديد بصمات المجرم ومعرفة هويته، فعصابة الأسد تقف وحدها وراء تلك الجريمة ولكنها اليوم تستخدم سلاحاً جديداً اعتمدته ضد السوريين بعد انتصارها المزعوم، وهو سلاح "التيئيس"، أي زراعة اليأس والعدمية التي أوصلت الضحايا إلى اتخاذ قرار الانتحار بعد انعدام فرص الحياة أمامهم وبالتالي تم دفعهم إلى الانتحار تلقائياً.

ملابسات الجريمة شديدة الوضوح، فالضحايا فقدوا الثقة بالحاضر والمستقبل نتيجة سياسة نظام الأسد الذي قامر بسوريا فأحرق أرضها، ثم ترك من بقي من مواطنيها بين موتين، موت سريري في الداخل، أو موت حقيقي في إطار البحث عن فرصة حياة.

وإذا فسرنا الواقع السوري الذي يدفع الناس لاتخاذ قرارات الموت في ظل حكم العصابة بنية حسنة، فسيكون فشل النظام في إدارة شؤون السوريين وعجزه عن تأمين المتطلبات الأساسية وحدود الكفاف لحياة مواطنيه السبب الرئيسي لذلك اليأس الكامل وانسداد الأفق، مما يدفعهم لاتخاذ قرار الهجرة على ما فيه من مخاطر وأهوال، وهنا تكون مسؤولية النظام مباشرة عن غرق السوريين وأشكال موتهم الأخرى نتيجة قرار الهجرة، أو قرار الانتحار.

لا يزال مشروع تفريغ سوريا من أهلها والتغيير الديموغرافي، أحد أهم أهداف العصابة وحلفائها، وبشكل خاص إيران

أما إذا استبعدنا النوايا الحسنة، وذهبنا باتجاه الوقائع وتأملنا سياسة النظام الحقيقية، فسنعرف أن خطة التهجير التي وضعتها العصابة الحاكمة سابقاً واعتمدتها بصورة علنية لا تزال سارية المفعول، فلا يزال مشروع تفريغ سوريا من أهلها والتغيير الديموغرافي، أحد أهم أهداف العصابة وحلفائها، وبشكل خاص إيران.

وهنا لا تختلف جريمة غرق المهاجرين عن مجزرة حفرة التضامن وغيرها من المجازر سوى في الوسيلة، هنا قارب، وهناك حفرة، هنا يدفع السوريون دفعاً لاختيار الموت، وهناك يقادون إليه معصوبي الأعين، فالسبب الوحيد لاستمرار محاولات الهجرة من سوريا هو إصرار النظام على البقاء ككابوس يجثم على صدور السوريين دون أمل بنهاية مرتقبة.

ولربما تتجسد الجريمة الأكبر للنظام في طريقة تعامله مع هذه الكارثة، فهو يقاربها من بعيد وكأنها لا تعنيه، ويورد الخبر في إعلامه كما لو أن الضحايا قادمون من قارة أخرى وليسوا مواطنين سوريين.

يحمّل إعلام النظام الضحايا أنفسهم مسؤولية قرارهم تارة، أو يبحث عن المهرّب لإدانته ومحاكمته تارة أخرى، دون أن يقترب ولو خطوة واحدة من السبب الرئيسي لقرار الضحايا بالفرار من جنته إلى جحيم البحر، ودون أن تهزه الكارثة فيعد السوريين ولو كذباً بشيء من الأمل.

لا يحتاج النظام هنا لإنكار صلته بالجريمة لأن أحداً لا يتهمه بها، ولا يذكر دوره في التسبب فيها بشكل مباشر، رغم وضوح الإحداثيات والتي لو تم مراجعتها على المستوى القانوني نفسه، -فيما لو قيض لهذه الحادثة أن تحاكم قانونياً- لما وجد القضاء شكاً في الفاعل، ولا سبباً لعدم إدانته.

ربما يستطيع النظام أن يتملص من جرائمه ومجازره التي لا تحصى بحكم القوة التي لا يزال يفرض الحقائق من خلالها، والدعم الذي يتلقاه من دول كبرى، ربما يستطيع التملص من مسؤوليته عن جريمة التضامن التي أثارت الرأي العام العالمي باعتبارها جريمة موصوفة كاملة الأركان، ولكونها مجزرة بشعة تم توثيقها بالصوت والصورة، وباتت حفرة التضامن التي قيد إليها سوريون وهم معصوبو الأعين وتم قتلهم بدم بارد ومن ثم إحراق جثثهم، باتت تلك الحفرة حديث العالم برمته، ولكنه لا يمكنه بحال من الأحوال إنكار مسؤوليته المباشرة عن جريمة غرق مركب المهاجرين التي ليس لها من مسبب سوى طريقة إهمال النظام لمواطنيه وإنكار حقهم في الحدود الدنيا للحياة المتوازنة.

لم يكن الغرقى الذين قضوا في الحادثة الأخيرة أول ضحايا البحر، ولن يكونوا الأخيرين، فمراكب الموت ستستمر طالما استمر سبب هجرة السوريين

لا أحد يدين النظام في ظل انشغال المجتمع الدولي بقضايا كبيرة، ولن يدين أحد النظام حتى لو لم يكن العالم مشغولاً بتلك القضايا، ولو حدث لأنكر النظام كالعادة، فثقافة الإنكار، والصفاقة التي اعتمدها النظام في إنكار كل ما فعله، وقدرته على ارتكاب الجريمة علناً ومن ثم التملص منها وإلقاء التهم على خصومه باتت السمة المميزة لسياسته في ظل انعدام أي مرجعية أخلاقية أو إنسانية لدى عصابة أدمنت على الإفلات من العقاب، واستمرأت الجريمة التي باتت ترتكبها حتى لو لم يكن لديها سبب لذلك، عصابة لا يتوقف إجرامها عند قتل السوريين أو إهمال موتهم بل تستمتع به وتستغله حدثاً تؤكد من خلاله على انتصارها المزعوم.

لم يكن الغرقى الذين قضوا في الحادثة الأخيرة أول ضحايا البحر، ولن يكونوا الأخيرين، فمراكب الموت ستستمر طالما استمر سبب هجرة السوريين، وبشكل أدق سبب تهجيرهم ودفعهم دفعاً للبحث عن أي حل يخرجهم من حالة الموت التي يعيشونها في ظل حكم عصابة الأسد، حتى وإن كان الحل هو الموت الفعلي. 

لن يسعى النظام لتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين حتى لو انتهى قانون قيصر وانتهى الحصار، وحتى لو بات قادراً على ذلك، ولن يوفر تهجير المؤيدين بعدما انتهى دورهم، فهو لا يزال يبحث عن مجتمعه المتجانس، ومن أجل ذلك فهو يعزز كل الأسباب التي تؤدي إلى هرب السوريين وترك أماكنهم لحلفاء النظام لينشئ بهم مجتمعاً جديداً لا يمت بصلة للمجتمع السوري الذي يعرفه السوريون أو الذي يطمحون لإنشائه.