من ثورة إلى عدالة تصالحية (2)

2021.01.16 | 00:01 دمشق

15881179_105.jpg
+A
حجم الخط
-A

لماذا يتعمدون تغييب جوهر الثورة السورية؟

 

تعتبر مرحلة حكم حافظ الأسد المسبب الرئيس للكارثة التي نشهدها اليوم، وهي التي أسست لانهيار المجتمع والدولة، ففيها سيطر الفساد على كامل مفاصل الدولة، ومؤسساتها، ونخر عميقا في بنيتها، وفيها أيضاً تم تعزيز وتقوية كل تصنيفات مجتمع ما قبل الدولة، وتم وأد الحياة السياسية، وإعادة الاعتبار للمناطقية، والطائفية، والعشائرية في تعامل السلطة مع المجتمع وداخل كامل مؤسسات الدولة، وبشكل خاص في مؤسّستي الجيش والأمن، والأخطر من كل هذا هو ما فعلته في الجانب الاقتصادي.

في 1970م، كان الاقتصاد السوري يترنّح تحت ضربات التأميم، التي بدأها "عبد الناصر" في مرحلة الوحدة، وأكملها حزب البعث بعده، وأرفقها بخطة التحوّل الاشتراكيّ المرتجلة، فاستغل حافظ الأسد هذا الوضع، وقام بعقد صفقات مع البنى الاقتصاديّة المتبقية في المجتمع، أو تلك التي تضررت من عمليات التأميم السابقة، وكانت هذه الصفقات بمثابة التأسيس لشراكات منفعة متبادلة، بين رأس المال والسلطة التي أدخلت نفسها كشريك في المؤسّسات الاقتصاديّة. مشاركة السلطة في الاقتصاد أدّت إلى إنتاج طبقة اقتصاديّة طفيليّة، وهي بالمعايير الاقتصاديّة، غير منتجة، ومعيقة لأيّة تنمية اقتصاديّة حقيقيّة.

في تلك الفترة، بدأت تتشكل شرائح اقتصاديّة جديدة داخل المجتمع السوريّ:

  1.  شريحة الشراكات التي نشأت بين أفراد من السلطة أو ملحقاتها، مع رجال أعمال وفعاليات اقتصادية تضررت من عمليات التأميم، فقبلت بالمشاركة التي تعيد لها قسماً مما خسرته، الأمر الذي دفع هذه الفعاليات إلى إعادة صياغة نشاطها الاقتصادي، بما يتناسب مع الشركاء الجدد (أشخاص نافذون في الأجهزة الأمنيّة والجيش، الحزب...)، وليس بما يتناسب مع درجة تطور السوق وحاجاته. 
  2. الفئة الطفيليّة، وهي التي بدأت تتشكّل معتمدة على حماية وسطوة السلطة، ووصايتها على العمليّة الاقتصاديّة، وفرضت وجودها عبر قدرتها على تجاوز القانون، هذه الفئة يغلب عليها طابع السمسرة والوساطة والخوّة، وتغيب عنها المعايير الاقتصاديّة.
  3.  الفئة الثالثة، بقايا وحدات الاقتصاد السوريّ، والتي لم تطلها عمليات التأميم، والسمة العامّة لها أنّها كانت ضعيفة اقتصاديّاً إلى حد ما، وأنّها أصبحت خائفة، فاتّجهت إلى ما يسمّى في الاقتصاد: دورة رأس المال السريعة، ووافقت على ابتزاز أفراد من بنية السلطة لها كي تضمن حمايتها.

بسبب افتقار معظم الوافدين إلى سوق العمل للمهارات والخبرات اللازمة، فقد اتجه القسم الأكبر منهم إلى مؤسستي الجيش والأمن،

خلال تلك الفترة، ونتيجة عجز القطاع الخاص المنهك عن استيعاب اليد العاملة، والتي تفد إلى سوق العمل سنوياً، تزايد الاتجاه إلى العمل داخل مؤسسات الدولة، فنشأ تضخّم حادّ في عدد العاملين في قطاع الدولة، ليس هذا وحسب، بل وتسبب الأمر بما يشبه تغييراً ديموغرافياً لبنية المجتمع المديني، بسبب توافد أعداد كبيرة من أصول ريفية الى المدن، مع ما سوف يسببه ذلك من تغييرات اجتماعية.

بسبب افتقار معظم الوافدين إلى سوق العمل للمهارات والخبرات اللازمة، فقد اتجه القسم الأكبر منهم إلى مؤسستي الجيش والأمن، فتضاعفت أعدادها بشكل كبير، وكانت الدولة قادرة – حينها - على توظيف تلك الأعداد الكبيرة، مستندة في ذلك إلى نهب الاقتصاد الوطنيّ، وإلى المعونات الخليجيّة التي تدفّقت على سوريا بعد حرب 1973م، واستغلت السلطة ذلك لتعزيز سيطرتها على المجتمع.

كانت الأزمة الاقتصاديّة والسياسية تتفاقم داخل سوريا، وتطول البنية العميقة للاقتصاد وللمجتمع، وبدأت تداعيات هذا التفاقم تظهر بوضوح، عبر تعميم القمع وزيادة سطوة الأجهزة الأمنية، أما النتائج الاقتصادية والتي بدأت مؤشراتها بالغة الوضوح، فقد عمد النظام إلى الحد من تفاعلها، وتخفيفها عبر المعونات الخارجيّة، وعبر تحميل الفئات الاجتماعيّة الدنيا أعباء إضافيّة، ومع هذا فإنّ معالم الفشل الاقتصاديّ، كانت تظهر في ارتفاع معدّلات التضخّم، وتدنّي مستوى الدخل الفرديّ، وفي ازدياد أعداد العاملين في مؤسسات الدولة (وصفها الاقتصاديون السوريون بجيوش البطالة المقنعة)، وازدياد أعداد المواطنين المنزلقين إلى تحت خطّ الفقر، وزيادة معدّلات البطالة.

 في عقد الثمانينيّات من القرن الماضي، تراجعت المعونات الخارجيّة، وبدأت الأزمة الاقتصاديّة تضرب أعمق في بنية المجتمع، وجاء انهيار الاتّحاد السوفييتي ومنظومته، ليدق جرس الإنذار بقوة، الأمر الذي دفع النظام السوريّ إلى التفكير جدّيّاً في البحث عن حلول لأزمة بنيويّة، باتت تعصف في كلّ مستويات المجتمع، فاستنفر منظّروه وخبراؤه، لوضع حلول لمواجهة هذه الأزمة الداخليّة.

ولأنّ الجهة الوحيدة القادرة على اتّخاذ القرارات الحاسمة في سوريا - في تلك الفترة - هي تقاطع مصالح رجال أعمال الطبقة الطفيليّة التي نشأت، مع شركائها في السلطة، فقد حُسم الاختيار بما يتناسب مع مصالح هذا التحالف، فتمّ استبعاد الليبراليّة الاقتصاديّة الحقيقيّة، لأنّ هذا يتطلّب بالضرورة الحد من الفساد، ويتطلب أيضاً إصلاحات عميقة في بنية الاقتصاد، وشروط الاستثمار وقوانينه، مع حد أدنى من الديمقراطية وحرية الإعلام.

تمّ طرح مصير القطاع العام على طاولة البحث، وبدأ مصطلح "الخصخصة" يُثار كثيراً في أحاديث السوريين، خصوصاً في ضوء الفشل الذريع الذي وصل إليه، لكن العدد الكبير للبطالة المقنعة المتكدّسة في مؤسسات القطاع العام، أجبر السلطة على تأجيل البحث فيه، خوفاً من تداعيات اجتماعية خطيرة، وتمّ اعتماد خطوات وخطط اقتصادية شكلية، لا تتصدى بشكل حقيقي لأسباب الأزمة، فأطلق مرسوم الاستثمار رقم 10 الذي زاد الطين بلّة، وبدأت عدة محاولات لم تأخذ بعين الاعتبار المحدّدات والمعايير الاقتصاديّة الحقيقيّة، وكان هاجسها الوحيد هو عدم المسّ بمصالح التحالف: (رجال أعمال – رجال سلطة).

لم يحتمل الاقتصاد المعاق بنيويّاً، كلّ تبعات هذه الإدارة الفاشلة، وكلّ مظاهر الفساد، التي راحت تتّسع وتتّسع، حتّى وصلت إلى أصغر وحدة في المجتمع السوريّ، لم تعد الصناعات المحلّيّة قادرة على المنافسة حتّى داخل سوريا، وأصبح المزارعون أجراء مجّانيّين في دورة اقتصاد تتسبّب بخسارتهم، فهجر قسم كبير من الفلاحين أراضيهم، واتّجهوا إلى قطاعات الجيش والأمن ووظائف القطاع العامّ، أمّا قطاع السياحة، فقد أصبح هامشيّاً جدّاً في العمليّة الاقتصاديّة، بسبب الفساد وتدخل الأجهزة الأمنية وتراجع مستوى الخدمات، إضافة إلى ذلك انهيار الصناعة، التي سحق التأميم معظم الملكيّات الخاصّة لها، وتكفّل الفساد وسوء الإدارة بفشلها داخل القطاع العام، لدرجة أنّ القطاع العام تحوّل بكامله إلى عبء على المجتمع والدولة.

ورث بشّار الأسد الحكم في سوريا بعد وفاة والده، ورغم أنّ عمليّة توريثه السيّئة تمت بتواطؤ السوريين في الدولة والمجتمع، لكنّها كشفت بوضوح البنية الحقيقية للدولة السوريّة، ومدى هشاشة مؤسّساتها.

تمّ استدعاء خبراء اقتصاديّين، ووضعت خطط لمعالجة الوضع الاقتصاديّ المتردّي، لكنّ كلّ تلك الخطط نُحّيت جانباً، ووضع اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تبناه فريق اقتصادي سوري لحل مشكلة الاقتصاد، جانباً، ورغم انطلاق بوادر حياة سياسيّة، أطلقتها بقايا أحزاب وسياسيون ومثقّفون عبر منتديات، وبدأت الدعوات لتشكيل أحزاب سياسيّة، كان هاجسها الأوّل هو الديمقراطيّة، لكن وبسرعة أيضاً، تمّ إلغاء المنتديات، وأوقف الحراك السياسيّ، وزجّ بعدد من شخصيّاته في السجون، وبدأت معالم صراع خفيّ، يدور بين شخصيّات الحرس القديم تطفو إلى السطح.

أدّى غياب العدالة في التوزيع، وتهميش مناطق الفقر، إلى ازدياد عدد السوريّين الموجودين تحت خطّ الفقر الأدنى، والتي وصلت حسب إحصائيّات الدولة الرسميّة إلى 12,3% عام 2007

طوال فترة حكم بشّار الأسد، لم تتمكّن السلطة من فعل أيّ شيء حقيقيّ، لمعالجة الأزمة العميقة التي ترسّخت خلال الفترة السابقة، فلم تتمكّن الأفكار والخطط التي تهتمّ بالفقراء وبالمناطق الفقيرة والمهمّشة بالقيام بأيّة خطوة حقيقيّة، وبقيت مناطق الفقر خارج عمليّة التنمية، وازدادت قوّة شبكات الفساد، واتّسعت دائرة نفوذها وسيطرتها على مفاصل القرار داخل الدولة، وتصدّرت الفئة التي أطلق عليها الدكتور "عزمي بشارة" تسمية "الذئاب الشابة" المشهد الاقتصادي والسياسي، فنشأت الشركات القابضة، "التي أطلق السوريون عليها اسم شركات "النهب القابضة"، والتي ارتكزت أساساً على مفاهيم اقتصاد العولمة، والتي سعت فقط إلى تكديس رأسمالها الخاصّ ضاربة عرض الحائط بالسياسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة، ولم يعنها أمر التأسيس لتنمية اقتصاديّة حقيقيّة، فلم تعمل على تطوير الصناعة وأهملت الزراعة، ولم تحقّق نتائج ذات معنى على صعيد السياحة، وانحصر نشاطها فقط في مجال الإدارة والخدمات.

أدّى غياب العدالة في التوزيع، وتهميش مناطق الفقر، إلى ازدياد عدد السوريّين الموجودين تحت خطّ الفقر الأدنى، والتي وصلت حسب إحصائيّات الدولة الرسميّة إلى 12,3% عام 2007، ورغم أنّ هذه النسبة هي أقلّ من الحقيقة، إلّا أنّها كافية لكي تدقّ جرس الإنذار، وتنبّه إلى المخاطر التي تتزايد يوماً بعد يوم.

من الطبيعيّ أن تشهد معدّلات البطالة ارتفاعاً كبيراً، ورغم أنّ الإحصاءات الرسميّة تقول: إن نسبة البطالة هي 18% عام 2010 (المكتب المركزيّ للإحصاء دمشق 2010م)، إلّا أنّ الرقم الحقيقيّ هو أعلى من هذا بكثير، إذ تعتمد أرقام الدولة الرسميّة على عدد المنخرطين في سوق العمل سنويّاً، وتقارنها بفرص العمل المحقّقة، وتصدر مؤشّراتها، لكنّها تتجاهل مثلاً أعداد من تحوّلوا إلى عاطلين عن العمل (من كانوا يعملون في الزراعة مثلاً، وتوقفوا بسبب الجفاف، أو بسبب انخفاض المردودية مقارنة بغيرها من الأعمال، وحتّى من يعملون في مجال تربية الحيوانات، والذين تضرّروا كثيراً من الجفاف، واليد العاملة التي عادت من لبنان مثلا).

إذاً أصبح الاقتصاد السوريّ ضعيفاً جدّاً، وغير قادر على المنافسة، ويتذكّر السوريّون جيّداً، كيف أدّى الانفتاح الاقتصاديّ أمام تركيا، وخلال فترة قصيرة جدّاً إلى شلّ قطاعات اقتصاديّة واسعة في سوريا، فالإفقار الشديد والمحاصرة والمحاصصة في القطاع الخاصّ السوريّ، ونخر الفساد للبنية العميقة للقطاع العامّ، أنتج اقتصاداً ضعيفاً غير قادر على المنافسة.

كانت فئة الشباب بين 18 إلى 35 سنة، هي الفئة التي أصابتها لعنة البطالة أكثر من غيرها، وإذا علمنا أن 19,8% منها حاصل على تعليم ثانويّ و12,5% حاصل على معهد متوسّط و6,7% حاصل على تعليم جامعيّ (أرقام من المكتب المركزيّ للإحصاء)، فإنه من الطبيعي أن يشكّل هؤلاء، القوّة الأساسيّة للانفجار الذي حصل في سوريا.

يُمكن القول ببساطة شديدة إنّ السنوات العشر الأولى من حكم بشّار الأسد، أوصلت السوريّين إلى قناعة عميقة باللاجدوى. لقد ازداد الفقر وازداد الفساد، وزادت الأجهزة الأمنيّة من سطوتها، وازدادت البطالة، وازداد التضخّم، وأصبح المستقبل بالغ السوء، وباعثاً على اليأس لدى معظم السوريّين، فارتفعت معدّلات الهجرة الداخليّة والخارجيّة، وبدأت الدولة تتكشّف شيئاً فشيئاً عن هشاشة بالغة في بنيتها، وبدأت صراعات المافيات الاقتصاديّة، والعسكريّة، والأمنيّة داخلها تنتقل إلى المجتمع، وتقضي على أيّ أمل للمواطنين السوريّين.

إن الثورة السورية لم تكن وليدة لحظتها، ولم تكن مؤامرة خارجية كما ادّعى النظام، بل كانت الثورة نتيجة تراكم طويل للكوارث الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية التي طالت المجتمع السوري، ووصلت به إلى حافة الانهيار، وجعلت الشعب السوري في أواخر قائمة النمو والتطور، وسدّت الأفق أمام جيل الشباب، أضف إلى ذلك التحولات الكبرى الحداثية، التي كانت تجري في دول العالم والإقليم أيضاً.

إن تعويم العصابة التي تحكم سوريا مرة أخرى، يعني الإبقاء على سوريا دولة فاشلة، ويعني استمرار هذه المأساة حتى دورة عنف قادمة، قد تطيح بكل مقومات بقاء سوريا دولة واحدة، قابلة للبقاء والتطور، وإذا كانت مصلحة الأطراف الخارجية، والعصابات الداخلية في ذلك فما هي مصلحة السوريين في إبقاء وطنهم مدمراً ومحكوماً من عصابة مرتهنة لمصالحها ومصالح حماتها الخارجيين؟