من أغراض الشعر مديح حافظ

2020.06.12 | 00:05 دمشق

unnamed_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل صحيح أن فعل التطور غير موجود في اللغة العربية، وأن اللغويين استخرجوه من آليةِ تَحَوُّلِ الحشرة من "طور" إلى "طور"؟ حسناً، لندع هذا جانباً ونتساءل، هل نحن نتطور فعلاً؟ وفي أي اتجاه؟ أترانا نتطور إلى الأمام؟ أم إلى الخلف؟، على طريقة أستاذنا المعري حين قال على لسان شاعر مغمور اسمهُ "الجحجلول" في رسالة الغفران:

صلحتْ حالتي إلى الخلفِ حتى

صرتُ أمشي إلى الورى زَقَفُونــه؟

يمكن اختزال عملية التطور، فيما أعتقد، بأن ننظر إلى تاريخنا وتراثنا بعين ناقدة، غير رحيمة، فنضرب بالسيء الرديء عرض الحائط، ونسمح لأنفسنا باكتساب أشياء حسنة نقتبسها من الشعوب الأخرى، أو نتوصل إليها بتطلعنا واجتهادنا، دون تردد أو خوف.

مثلاً: قدماؤنا كتبوا الشعر، ونحن نكتب الشعر؛ فهل ينبغي علينا أن نُبقي على أغراض الشعر القديم (الفخر، المديح، الرثاء، الهجاء) كما هي؟ أم ننجز إبداعاتنا بطريقة أخرى، ونطورها بقدر ما نستطيع؟

"الفخر" لا يعني الثقة الموضوعية بالنفس، أبداً، بل إنه المرادف الأول للادعاء، والكذب، والنرجسية، ونَسب الخصال الحميدة كلها للشاعر أو لقبيلته، والاستخفاف بوجود الآخرين، وإمكاناتهم، وإبداعاتهم، وتسخيف منتجاتهم الحضارية، ويكون ذلك إما على طريقة المتنبي الذي زعم أنه يذهب إلى النوم ويترك الناس الآخرين يختصمون فيما قال، ويسهرون لأجله حتى الصباح، وأن بإمكان الأعمى أن يتأمل كلماته، ويسمعها الأصم.. أو يتجاوز فخرُه بقبيلته حدود المنفخة الكاريكاتيرية على طريقة الشاعر عمرو بن كلثوم الذي زعم أن قومه الصحراويين قادرون أن يملؤوا وجه البحر بالسفن، وحينما يبلغ صبيهم الفطام تخر له الجبابرُ ساجدة!

والسؤال الأهم: بماذا يلزمنا الفخر الآن، في النصف الأول من القرن 21؟ 

ربما كان المديح هو الوجه الآخر للفخر، ولكن ليس على هذا النحو الميكانيكي البسيط. المديح يعني أن يستصغر المداح نفسَه، وينفخ في شخصية الممدوح حتى يكاد أن يوصلها إلى حافة التنفيس. إنه نفاق كبير، يمزجه الرجل الصغير بطمع، وغش، وتزلف، ليحصل من ورائه على مال، أو منصب، أو حظوة، مؤملاً أن يأتي اثنان من خدم الحاكم إليه بعد فراغه من إلقاء القصيدة، فيمسكانه، ويبطحانه، ويفتحان فمه، ثم يأتي خادم ثالث ليحشو فمه بالدر!

يرى أستاذنا المعري أن النفاق يجعل السلعة الكاسدة رائجةً، إذ يقول:

فلا يعجبنّيَ هذا النفاقُ.. فكم نَفَّقَتْ محنةٌ ما كسدْ

ويشير معرينا، في قصيدة أخرى، إلى أن المديح ينطوي على كذب كاريكاتيري، يتجلى في أن مادح الحاكم في العلن، لا بد أن يهجوه في سره، إذ يقول:

يا قوم لو كنتُ أميراً لكم

ذممتمُ في الغيبِ ذاكَ الأميرْ

قد كان حرياً بشعبنا، ونحن في زمن صعدت فيه الأمم الأخرى إلى مجاهل الفضاء (فعلاً، وليس ادعاء) أن يُجري قطيعة كاملة مع المديح

لنعد إلى مسألة المديح ونحاول ربطها بموضوع التطور الذي افتتحنا به هذا الحديث، ولنقل إنه قد كان حرياً بشعبنا، ونحن في زمن صعدت فيه الأمم الأخرى إلى مجاهل الفضاء (فعلاً، وليس ادعاء) أن يُجري قطيعة كاملة مع المديح حتى ولو كان الممدوح يستحق ذلك.. ولكننا فعلنا العكس تماماً، ففي ظل الحكومات الانقلابية غير الشرعية التي تعاقبت على سوريا منذ سنة 1949، كان الشعراء يتهافتون على مديح الزعيم صاحب الانقلاب الجديد، وذم الزعيم المنقلب عليه حتى ولو سبق لهم أن مدحوه، وأحياناً يمتدحون ملك دولة أخرى، أو رئيساً آخر كجمال عبد الناصر، ومن بعده صدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد.. وكان هذا يحصل في السابق على نحو محدود، وكان يمكن أن يتعرض الشاعر المداح يومئذ للانتقاد والاستهزاء، وهو بدوره يشعر بالخجل، ويداري على فعلته (الدنيئة)، ولكن؛ لم يكن أحد في العالم يتنبأ، أو يتوقع، أو يصدق أن تتحول حالة مديح الرئيس إلى هستيريا محمومة، وميداناً للتسابق، مثلما حصل في سوريا ابتداء من مطلع الثمانينات، حينما تسلم وزارة الإعلام السورية أحمد إسكندر أحمد، فأصبح مديح حافظ الأسد (فرض عين)  على كل شاعر أو ناثر قاده حظه العاثر لأن يكون موظفاً في إحدى الصحف الحكومية الثلاث، أو صحف المحافظات والمنظمات الشعبية، أو قريباً من منظمة شبيبة الثورة أو طلائع البعث أو الاتحاد الوطني لطلبة سوريا.. وشرع تحالف الأجهزة الإعلامية مع الأجهزة الأمنية يعقد آمالاً قوية على الشعراء والناثرين غير الموظفين، متوقعاً أن تصيبهم العدوى، فيتطوعون لمديح حافظ الأسد من تلقاء أنفسهم، فإن لم يفعلوا فذلك لا بد أن يتسبب بالتضييق عليهم، ومحاصرتهم بالتقارير والاستدعاءات والاستجوابات الأمنية، فمن استطاع أن يقاوم هذا البلاء كله حتى النهاية لا بد من تصنيفه في خانة أعداء الوطن.. ويجري التعامل معه على هذا الأساس.

ثمة مسألة مهمة لا بد من الإشارة إليها في خاتمة هذا الحديث. وهي أن معظم الأبيات والقصائد التي كتبت في مديح حافظ الأسد (وغيره من الملوك والرؤساء بالطبع) ينبغي تصنيفها في خانة "النظم"، لأنها أبعد ما تكون عن الشعر الإنساني العظيم الذي يحفل بالصور، والعواطف النبيلة، والأحاسيس المرهفة، ويخاطب الجانب النبيل في الوجدان الإنساني، وتكاد حرارة عاطفته تلسع قارئه.. هذا الأمر يقودنا إلى الوقوف على ظواهرَ تزامن تشكلُها مع هستيريا مديح حافظ، وهي أن هنالك شعراء وشاعرات لم يكن لهم أي تاريخ أدبي سابق، ونحن المهتمين بالأدب لم نكن نسمع بهم، وفجأة صرنا نراهم يتصدرون المهرجانات الخطابية وهم يلقون مطولاتهم الملأى بالتزلف، وهناك شعراء كبار حقيقيون أيضاً انزلقوا إلى هذه الهاوية.. وهذا يقودنا إلى استنتاج مثير، وهو أن المرء لن يزعل عندما يرى هؤلاء النظّامين الصغار يتساقطون، فليس لديهم تاريخ مجيد يخسرونه بالمديح، ولكن ما يحز بالنفس أن ينحدر شاعر كلاسيكي كبير مثل محمد مهدي الجواهري إلى هذا الدرك.