ممنوع الوقوف على الأطلال والتصوير

2021.11.27 | 05:57 دمشق

1859388.jpg
+A
حجم الخط
-A

كُتبت آلاف القصائد في حبِّ الوطن، في الشرق والغرب ولن تجد شاعراً عربياً لم ينشد في حب الوطن، فهو فريضة روحية، إقامة وظعنًا، إلا قليلاً منهم، مثل الأميركي ولت ويتمان لأنه أميركي بلا تاريخ. وقف الشعراء العرب على الأطلال، وبكوها، وقيلت آلاف القصائد في حبِّ الديار، مثل: "وما حب الديار شغفن قلبي ولكن من سكن الديارا"، ومثل قول الشاعر في الوطن: "إذا صبا الغريب إلى أوطانه شوقًا فمعناه إلى أحبابه"، فكان أول بيت للشاعر الجاهلي في القصيدة يطابق بين الوطن والحبيبة، فإن كان صدر البيت الأول للحبيبة، فشطره الثاني للوطن. مثل: يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي دار عبلة صباحا وأسلمي، وكان النقاد المحدثون يسخرون من وقوف الشاعر على الأطلال وكدت أسخر مثلهم حتى قرأت "الأرض اليباب" لإليوت.

 وكان الشاعر العربي أكثر الناس حرية في الأرض، فليس في الصحراء سوى السماء والأرض. نزح الأنبياء عليهم السلام من أوطانهم، آدم من الجنة، ويونس من نينوى، وإبراهيم من سواد العراق فأسكن أهله "بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ"، وهاجر خاتم المرسلين من مكة إلى المدينة، فحبُّ الوطن فطرة بشرية لكن المصفوفات السياسية العربية المعاصرة هجرت شعوبها وجعلت حبّ الوطن عقوبة صارمة، وواجبًا ثقيلًا وغرامة باهظة. إنها تعرف طبائع الأمور التي تقول: وَكُلُّ امرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ. فأولت القبيح وغرست الذلَّ. إنها تدرك أنَّ القلب إذا أُكره عمي.

تعود طيور السنونو إلى أعشاشها في الصيف بعد عبور القارات، وعبر ذئب في فلم وثائقي آلاف الكيلومترات بحثًا عن وليف بعد أن قُتل أهله، وفي فلم "أسرة الأسود" الذي بثَّ على الجزيرة الوثائقية راقب فيه عالِم الحيوان أسرة الأسود في الصحراء ما يقرب من عقدين، فوجد أنها ستنقرض لأنَّ الإنسان سلبها وطنها وطعامها، فلم يبق سوى أسد وحيد، فاصطاده وخدره ورحل به إلى غابة بعيدة تكثر فيها الفرائس، إنقاذًا له من القتل، فاستغرق الأسد شهرًا وعاد إلى عرينه في البادية التي يقلُّ فيها الطعام والماء.

لم نكن نحتاج إلى "الصلاة الوطنية" الصباحية في المدرسة لتحية العلم وترديد الشعار وتكدير الجيران بهتافنا حتى نعبّر عن حبنا للوطن وإخلاصنا له

حفظنا في المدرسة قصائد عن الوطن، مثل بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، وبلادي إن جارت علي عزيزة، وأهلي وإن ضنّوا كرام. وزرتُ حيًا عشوائيًا مرعبًا ليس فيه عرق أخضر أو أصفر في حمص العدية وتعني الممطرة، كان أهله يغنون أغنية عراقية معروفة هي: جنّة جنّة جنّة. حبُّ الوطن فطرة فجعله الحكام جزية.

لم نكن نحتاج إلى "الصلاة الوطنية" الصباحية في المدرسة لتحية العلم وترديد الشعار وتكدير الجيران بهتافنا حتى نعبّر عن حبنا للوطن وإخلاصنا له، ولا بصياح الموجه المدرسي، وهو مدّرس اختص بتلقين حبِّ الوطن بالقوة. والتفتنا، فوجدنا أن الوطن الذي كان رائعًا في مواضيع التعبير المدرسية، وكتب القراءة والخرائط وكتاب العلوم، ولم يعد وطنًا، ووجدنا أمرًا عجيبًا، وإن شيئًا قد تغيّر منذ أن حلت إسرائيل الجميلة الحسناء بساحتنا فساء صباح المنذرين، بمستوطناتها الرائعة المبنية على الهضاب، وأشجارها التي تنبت بسرعة، وإن أوطاننا قد فقدت جمالها وشاخت، وكلما ازدادت قبحًا ازداد الإلحاح على الخطب الجوفاء، ونشطت الفروع الأمنية لإجبارنا على حبِّ الوطن، وبات اقتناء سلاح للدفاع عن البيت، أو ادّخار مال صعب أو قمح للشتاء، جرائم يعاقب عليها الدستور الجديد.

كان للأشجار أرواح، وللمآذن شدو، ففقدت الأشجار أرواحها، والأنهار مياهها، حتى الحيطان أمست مذعورة وخائفة من الغزاة المتنكرين بالوطنية، وتكتب الوشايات حتى تسلم من الأذى، ونشأت طبقة من المرتشين واللصوص الكبار، وكثرت الفروق بين البيوت الطين والبيوت الرخام، فتسرب الأذكياء والعقلاء من الوطن، وهاجروا من جنات بيوتهم الجميلة وذكرياتهم وقبور آبائهم التي كانوا يزورنها كل خميس، ونزحوا هربًا بجلودهم وذكرياتهم من الموت في السجون عقابًا على خيانة الوطن، وكثرت المطبات الصناعية في الشوارع الرئيسة، وباتت الشوارع محرمة على أهلها، إن لم يكن خوفًا من فروع الأمن، فشفقة من سماع أصوات الصراخ والتعذيب، وانتشرت صور الوحش مالك الوطن الجديد في كل مكان في الوطن، وشاعت العنوسة وارتفع سن الزواج إلى الأربعين، حتى بات شراء بيت من أجل تكوين أسرة، يحتاج إلى عمر من أعمار الأنبياء. ليس سوى الأطول فلا حبيبة ولا وطن.

كانت أطراف المدن مزينة بالحدائق والجنان فأمست مزدانة بالأحياء العشوائية، وكل الأمتعة مهربة من البلاد المجاورة

أمسى الوطن قمامة وزبالات بلا حاويات ونفايات نووية وآثار للسياح، تلعب في سمائها الأكياس الطائرة بدلا من المسيرات سلاح العالم الجديد، كانت أطراف المدن مزينة بالحدائق والجنان فأمست مزدانة بالأحياء العشوائية، وكل الأمتعة مهربة من البلاد المجاورة، ولو دخل شرطي إلى البيوت لوجد كل شيء مخالفا للقانون، التلفزيون وعلبة السمن، وعلبة الدخان، ليس في البيت من الوطن شيء سوى التراب والحجارة. ويحتاج العبد إلى رخصة وإجازة لعمل أي شي؛ فتح محل، حلاقة شعر، شهيق زفير.

حتى إن وصف العبد صار حلمًا، فكان عنترة عبدا يستطيع بسيفه أن ينال حريته، أما المواطن العربي الجديد في جمهوريات الاستفتاءات فلن ينال سوى بعض الفتات إن أحسن الكذب وأجاد فن النفاق.

فصدق قول المتنبي بعد تصحيف بسيط:

  إِذا "تَهرّبتَ" عن قَومٍ وَقَد قَدَروا             أَن لا تُفارِقَهُم "فالطاردون" هُمُ

نحن نرى أكبر فلم وثائقي يوميًا في الأخبار عن الهرب من الأوطان الحديدية، أبطاله شعوب بأسرها. أما عن تفسير عودة بعض النازحين فليس المجرم وحده يعود إلى مكان الجريمة فالضحية الناجية أيضا تعود. لم يغتصب الوطن وحسب وإنما دفعوا "العبد" لبيع بيته أو تركه  ثمنا لحريته.

إحدى الغايات الكبرى منذ هذه المحنة هي القول إن أوروبا جميلة وإنها على الحق ونحن على الباطل.