"ممر السلام" وتحديات المرحلة المقبلة

2019.08.09 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

طرحت تركيا منذ عام 2015 مشروعها لإقامة مناطق آمنة شمال سوريا، وتشمل هذه المناطق الشريط الحدودي في الشمال السوري، وكان الاقتراح التركي آنذاك يشمل منطقة بعمق 8 كم، بالشراكة مع قوات غربية على أن تكون هذه المنطقة مشمولة بحظر الطيران، لكن المطالب التركية المستمرة لهذه المناطق كانت مستمرة، حتى بات العمق الذي تطالب به تركيا يصل إلى 30-32 كم، وتبرر تركيا هذه المطالب بهدف حماية أمنها القومي من جماعات العمال الكردستاني العاملة في سوريا والمصنفة على قوائم الإرهاب حتى لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي سعت منذ إعلان بدء الحرب على داعش سنة 2016 لتبرير تحالفها مع هذه القوات، بتبديل اسمها من قوات حماية الشعب YPG  إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) واعتبارها بأنها لا علاقة لها بحزب العمال الكردستاني PKK. ومن المبررات كذلك التي تقدمها تركيا في هذا الإطار هو توفير منطقة آمنة للاجئين السوريين، ومنع تدفق المزيد منهم إلى الأراضي التركية، بل وإعادة السوريين من تركيا إلى هذه المناطق.

الموقف الأمريكي والغربي

دعمت فرنسا في عهد فرانسوا هولاند فكرة إنشاء مناطق آمنة في الشمال السوري، وكان هولاند يبرر هذا الدعم باستحضار المخاوف الأوروبية من الهجرات السورية إلى أوروبا، وتأمين مناطق آمنة لهم، وكانت المقاربة الفرنسية – التركية آنذاك تتلخص بإقامة ثلاث مناطق آمنة من اعزاز إلى جرابلس، كل منطقة يمكنها استقبال 100 ألف مهاجر، وأبدت فرنسا استعدادها لتحمل الكلفة المادية لذلك، وتصدرت دور إقناع الغرب بالفكرة، التي رفضتها كل من أمريكا وروسيا وكذلك رفضاً أوروبياً وبشكل خاص في كل من برلين ولندن، ومع صعود ماكرون لسدة الرئاسة كان واضحاً المواقف المتباينة في سياسته الخارجية مع سلفه هولاند، فانضمت فرنسا لقائمة الدول المشككة في جدوى هذه المنطقة ومعارضة للخطوات التركية في هذا الإطار، خاصة مع تصاعد الدور العسكري الذي باتت تلعبه القوات الكردية في المنطقة، والتوتر الذي بات يسود العلاقات الغربية – التركية بعد محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا. 

أمريكا كانت في بداية الأمر تعزو رفضها لفكرة مناطق آمنة (عازلة) إلى أولوية الحرب ضدّ داعش، ومن ثم تشترط تحديد قوات المعارضة المعتدلة التي ستتولى إدارة هذه المناطق، واستمرت المماطلات الأمريكية خلال الأربع سنوات الماضية، على الرغم من حدوث اختراق لموقفها في منطقة عفرين، وكذلك الاتفاقات على خريطة طريق حول منبج، غير أن ذلك كله لم يبدد المخاوف التركية، وبشكل خاص بعد اتساع نطاق السيطرة الكردية لتشمل جميع مناطق شرق الفرات.

الموقف الروسي وبوابة الأستانة

مع تمسك الأمريكان بموقفهم من إبقاء الغطاء لقوات قسد في المنطقة، وضعف دور النظام في تلك المناطق، كانت المواقف الروسية تتجه إلى التقارب مع الأتراك، فعلى الرغم من دعم الروس للنظام، ودعم الأتراك لبعض فصائل المعارضة، إلا أن ذلك لم يمنع من محاولة الطرفين تنسيق الجهود وتشكيل جبهة عمل مشترك في إطار مجموعة الأستانة، التي سمحت بالتوصل لمناطق خفض التصعيد، التي كانت ولا تزال هشة مع الانتهاكات المستمرة لهذه المناطق من قبل النظام والروس. تركيا التي كلما ساءت العلاقة مع الأمريكان اتجهت نحو التقارب مع الروس الذين كانوا بارعين في انتهازية الموقف واستغلال الحاجة التركية، للحصول على المزيد من التنازلات والصمت التركي على جبهات القتال في الشمال السوري وبشكل خاص في إدلب.

تركيا تحشد قواتها وتهدد بتدخل أحادي

 يبدو أن تركيا التي ضاقت ذرعاً بالسياسات الأمريكية، والتي اتجهت مؤخراً للمضي قدماً بصفقة المضادات الروسية الحديثة (إس – 400)، الأمر الذي جعل واشنطن تتخذ قرار بإيقاف مشاركة تركيا ببرنامج تصنيع المقاتلات الحربية (إف-35)، قد قلص الخيارات التركية، فبدت تركيا مستعدة للبدء بعمل عسكري شامل في الشمال السوري، رغم الوجود الأمريكي هناك، هذا الموقف كان من الجدية بحيث حشدت تركيا قواتها خلال العام الماضي بشكل غير مسبوق ولأول مرة منذ سنة 1998 التي حشدت فيها تركيا آنذاك قواتها للدخول في حرب مع سوريا، الأمر الذي دفع حافظ الأسد حينها للاستعانة بحسني مبارك لنزع فتيل الأزمة، والتي انتهت بترحيل أوجلان، وإيقاف نشاط العمال الكردستاني، وتوجت المباحثات بتوقيع اتفاقية أضنا التي تعهدت سوريا بمكافحة نشاط العمال الكردستاني على أراضيها، والتعاون الأمني وتسليم المطلوبين لتركيا، إضافة إلى التخلي عن أي مطالبات حدودية سابقة مع تركيا، بمعنى اعتبار قضية الإسكندرون منتهية.

التوافقات الأمريكية – التركية على "ممر السلام" بدلاً من "المنطقة الآمنة"

لقد دفعت التحركات التركية الجادة، والتي يبدو أنها كانت تحظى بموافقة ضمنية روسية، ربما مقابل صمت تركيا على قصف روسي وحشي

لم تتسرب إلى وسائل الإعلام أي معلومات بخصوص هذه المنطقة، وحدودها، ومصير القوات الكردية. لكن يبدو أن تركيا راضية تماماً عن الاتفاقية الجديدة

عنيف شهدته مناطق إدلب خلال الفترة الماضية، الأمريكان إلى أخذ التهديدات التركية هذه المرة على محمل الجد، خاصة وبعد أن أبلغت تركيا رسمياً كل من موسكو وواشنطن بأنها ستتدخل عسكرياً مع منح مهلة على ما يبدو لواشنطن لمراجعات أخيرة لموقفها. وبالفعل سارعت واشنطن لإرسال وفد رفيع المستوى إلى أنقرة، اجتمع لثلاثة أيام متتالية في أنقرة، لينتهي الاجتماع فعلياً يوم الأربعاء، مع الإعلان لتوصل لتوافق أمريكي – تركي على ما تم تسميته هذه المرة (ممر سلام) بدلاً من (المنطقة الآمنة)، ولم تتسرب إلى وسائل الإعلام أي معلومات بخصوص هذه المنطقة، وحدودها، ومصير القوات الكردية. لكن يبدو أن تركيا راضية تماماً عن الاتفاقية الجديدة، والتي من المقرر أن تبدأ بإنشاء مركز عمليات مشترك تركي- أمريكي، للبدء بتطبيقها على الأرض، مع الإعلان بأن هذا "الممر" المزمع إقامته، سيسهل عودة المهاجرين السوريين في تركيا.

الإعلان عن القرار انعكس فوراً على الواقع الاقتصادي بانتعاش الليرة التركية، كما يبدو أن الخطوات إذا ما تمت فإنها ستعزز شعبية الحكومة التركية المتراجعة، خاصة فيما يتعلق بملف إعادة اللاجئين السوريين، والتي ستستمر تركيا بدور المشرف الذي يتلقى المساعدات الأوروبية لتأمين أوضاعهم واحتياجاتهم في "ممر السلام" الجديد.  

مستقبل القوات الكردية والتحديات المحتملة

السيناريو المطروح بموجب الاتفاقية الأخيرة بين تركيا- وأمريكا، سيجبر القوات الكردية على إخلاء "ممر السلام" الجديد، والذي لم يتضح إذا ما كان سيشمل العمق الذي كانت تطالب به تركيا، أم عمق أقل على خلفية المفاوضات الأخيرة، لكنها ستكون حتماً خالية من قوات قسد تماماً، وستدفع قسد لإعادة التموضع جنوب هذه المناطق، وغالباً ستكون مدينة القامشلي التي تضم وجوداً للنظام السوري ومطاراً خارج منطقة "الممر"، وكذلك حقول النفط التي تخضع لمحاصصات بين قسد والنظام والتي من المحتمل أن تبقى تحت سيطرة قسد، خاصة في منطقتي دير الزور و الشدادي.

النظام وعلى لسان المستشارة الإعلامية والسياسية لرأس النظام بشار الأسد بثينة شعبان، قالت إن المنطقة الآمنة في شمال شرقي البلاد

التحديات الأمنية ستكون إحدى أبرز العقبات التي من المحتمل أن تواجه مناطق "ممر السلام"

لن تكون إلا في ظل الدولة السورية. لكن لا يبدو أن نظام الأسد قادر على الحيلولة دون إنشاء هذه المنطقة، مع بقاء قدرته على استهداف المناطق المدنية التي ستشملها هذه المناطق، بسيارات ملغمة غالباً.

التحديات الأمنية ستكون إحدى أبرز العقبات التي من المحتمل أن تواجه مناطق "ممر السلام"، وستسعى قوات قسد التي ستكون منتشرة على طول المناطق المحاذية لهذا الممر الحدودي وبدعم من النظام، على زعزعة الاستقرار بإحداث عمليات تفجير كالتي تقوم بها في مناطق عفرين ودرع الفرات وتتبناه رسمياً. ويبدو أن الخدمات الإدارية ستتأثر سلباً في هذه المناطق، خاصة إذا أصبحت المنطقة حاضنة لمزيد من اللاجئين، ضمن إمكانيات محدودة. وفي حال كانت الإدارة المحلية المدنية في هذه المناطق خاضعة للإملاءات العسكرية والفوضى المماثلة لمناطق درع الفرات، فهذا بلا شك سيعزز الاستياء الشعبي اتجاه الأوضاع الجديدة، وربما سيفاقم المعاناة للسكان، ويجعلها تشمل مناطق جديدة.

إجراءات لا بد منها لإنجاح "ممر السلام"

"ممر السلام" أو المناطق الآمنة أو أياً كان اسمها، ولكي تحقق المصالح المشتركة للشعب السوري أولاً، وللأتراك كحلفاء ثانياً، يجب أن تأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار لضمان نجاحها:

  1. تحقيق الأمن بالدرجة الأولى.
  2. التصدي لأي محاولات انتقامية من أي شخص أو طرف كان، لغاية إنشاء مجالس محلية، ومحاكم سورية مختصة، تنظر في جميع القضايا وتقدم كل متهم للعدالة.
  3.  ضرورة فهم طبيعة السكان المحليين، وعدم إغلاق أي باب اتجاههم تحت أي ذريعة أو تهمة، ومحاولة استيعاب الجميع، بما في ذلك الوجهاء المحليين.
  4. احتواء الآلاف من أبناء المنطقة الذي شغلوا خلال فترة سيطرة قسد خلال السنوات الستة الماضية، أي وظائف مدنية، وكذلك المجندين قسراً، وعدم دفعهم للخروج من المنطقة.
  5. تجنب أي استفزاز للمشاعر الوطنية للشعب السوري، وعدم رفع أي أعلام أو رايات أجنبية على أي من المرافق والمراكز الخدمية أو الطرق، وعدم فرض أي أجندة خاصة بالعملية التعليمية، ودعم جهود منظمات المجتمع المدني بشكل غير مشروط، وعدم دعم أي توجهات حزبية بناء على خلفيات إيديولوجية أو عرقية أو دينية.
  6.  احترام خيارات الشعب السوري، وعدم فرض أي وصاية عليه عسكرية كانت أم سياسية، والفصل الكامل بين العمل العسكري والمدني، وإبقاء السلطة بين أصحاب المنطقة من المدنيين منعاً لانتشاء الفوضى.
  7. الاستفادة من الأخطاء التي وقعت في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، والتعامل بمسؤولية مع مخاوف السكان المحليين، وعدم السماح بحصول أي تجاوزات مهما كان نوعها من قبل جهات غير مختصة وغير مؤهلة.