ملامح العلاقة بين الحراك الشعبي والقوى السياسية السورية

2022.10.14 | 04:27 دمشق

ملامح العلاقة بين الحراك الشعبي والقوى السياسية السورية
+A
حجم الخط
-A

لعل السمة الأبرز من سمات العلاقة بين الجمهور والقوى السياسية السورية هي (القطيعة المزمنة)، وما من شك في أن جانباً كبيراً من هذه القطيعة إنما يعود إلى أسباب موضوعية، خاصة في المراحل السابقة لثورة آذار 2011، إذ لا يمكن الحديث خلال الحكم الأسدي الممتد من عام 1970 وحتى 2011 عن حالة من التواصل العلني بين الأحزاب السياسية المعارضة وحواضنها الشعبية، بل ربما كان نشاط الأحزاب بمجملها نشاطاً سرّياً، وكان هاجسها الأول هو تحاشي الوقوع بيد السلطات الأمنية وتحاشي مصير السجن الطويل أو التصفيات الجسدية لأعضائها، الأمر الذي كان له الأثر الكبير على محدودية عمل تلك الأحزاب وانحسار تأثيرها في الشارع السوري، ولعل هذا الأثر ذاته لم يكن بعيداً عن عموم السوريين، إذ لعلنا لا نُفاجأ حين نجد أن أكثر السوريين يجهلون العديد من أحزاب المعارضة التقليدية، على الرغم من عمرها النضالي الذي يمتد لعقود من الزمن في ظل دولة الأسد، ومردّ ذلك هي الأسباب الأمنية ذاتها التي عزّزت في أذهان السوريين أن ممارسة السياسة تفوق جميع المحظورات.

واقع الحال يؤكّد استمرار ابتعاد مجمل القوى السياسية المعارضة ليس عن الجمهور العام فحسب، بل عن مجمل مفاصل الحراك الثوري الشعبي السوري

استطاع الحراك الثوري الشعبي كسر الهيبة الأمنية للسلطة منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة، وباتت مظاهر تحرر السوريين من سطوة الخوف تتصاعد موازاة مع إقبالٍ من جانب الكثيرين على إنشاء أطر سياسية تتمثل في أحزاب وتجمعات وتيارات متنوعة، وربما جسّد هذا الإقبال الشديد ظمأ السوريين إلى فضاءات الحرية المفقودة في البلاد طوال نصف قرن، وكان من المفترض أن تسهم هذه التشكيلات السياسية الجديدة، بالإضافة إلى القوى التقليدية، في إثراء المشهد السياسي من جهة، كما كان من المفترض أيضاً أن تبادر إلى ردم القطيعة المزمنة بينها وبين الجمهور العام باعتبارها وليدة مفصل ثوري من تاريخ سوريا، إلّا أن واقع الحال يؤكّد استمرار ابتعاد مجمل القوى السياسية المعارضة ليس عن الجمهور العام فحسب، بل عن مجمل مفاصل الحراك الثوري الشعبي السوري، الأمر الذي يؤكّد أن الهوّة القائمة بين الحراك الثوري وقوى المعارضة لا يمكن إرجاعها إلى حيّزها الموضوعي فحسب، بل إلى جانب ذاتي قرين بمستوى الوعي والتفكير المُؤسِّس لتلك الكيانات الحزبية. يمكن لنا في هذا السياق أن نستثني الكيانات الرسمية للمعارضة من هذا التشخيص وذلك لأسباب ثلاثة: يتمثل الأول في أن تشكيل هذه الكيانات لم يكن منبثقاً من إرادة السوريين وخياراتهم، وإنما تشكلت بفعل إرادات دولية خارجية، ويتمثل الثاني في أن معظم أعضاء هذه الكيانات لم يكن لهم أي صلة بالشأن السياسي السوري قبل عام 2011، بل ربما كان البعض منهم خارج البلاد منذ عقود، وأُتيحت له فرصة الانخراط في تلك الأجسام السياسية بفعل عوامل لا علاقة لها سوى برغبته للوصول إلى السلطة أو المنصب. ويتمثل السبب الثالث بطبيعة الارتباط الخارجي لتلك الكيانات، نتيجة تماهيها بأجندات الدول التي ترعاها أكثر من تماهيها بالقضية السورية، وبحكم هذا الدور المرسوم لها يغدو ابتعادها عن الحراك الشعبي نتيجة شبه حتمية.

يبقى السؤال الأكثر مركزيةً في الوقت الراهن قائماً حول انعدام الجسور بين أي شكل من أشكال الحراك الثوري الشعبي وبين معظم القوى السياسية التي تناهض نظام الأسد بعيداً عن الكيانات الرسمية للمعارضة، فتلك الأحزاب والتيارات والتجمعات، وعلى الرغم من أوراقها ووثائقها التي تزخر بالتصورات والرؤى والأفكار التي تجمع كلها على وحدة مرجعيتها الشعبية الثورية، إلا أن خطابها وسلوكها السياسي يبدو مفارقاً لذلك، الأمر الذي يدعونا على الدوام لإعادة النظر في الأسباب المحصورة فقط بالجانب الأمني، كما تحيلنا إلى النظر بطبيعة الوعي الذي تُؤسِّس عليه تلك الأحزاب فهمها واستيعابها لما يجري، وكذلك إلى إعادة فحص مرجعياتها الفكرية والعقدية. ويمكن لنا بقليل من المجازفة استعراض مقارنة بسيطة بين طبيعة السلوك الذي جسّد حراك الشارع الثوري إبان انطلاقة الثورة، وبين السلوك السياسي لأحزاب المعارضة، بهدف الإشارة إلى مبعث هذا التفارق لا أكثر، فالثورة السورية انطلقت شرارتها الأولى من الحراك الشعبي ثم ما لبثت أن عمّت معظم المحافظات السورية، فكسرت شوكة القوى الأمنية وأسقطت الأسد أخلاقياً وهزمته عسكرياً في العديد من المدن السورية، وذلك من خلال الاعتماد على حراك سوري لا دور فيه لأي طرف خارجي، وكذلك دون أي دور يذكر لتلك الأحزاب والقوى المعارضة التي لم تكن تجد لديها ما يمكن أن يغني ويعزز حراك الشارع، فالتحقت بها التحاقاً، وحين بدأت تتشعب القضية السورية ودخلت في مرحلة الاستعصاء السياسي، كان من المتوقع آنذاك أن تبادر تلك القوى والأحزاب إلى العودة إلى الشارع السوري لتجسير العلاقة معه باعتباره القوة المحرّكة للثورة بالأساس، إلّا أن تلك القوى اتجهت نحو الخارج، وحاولت تعزيز القناعة لدى السوريين بأن القضية السورية باتت بيد المجتمع الدولي ممثلاً بقواه النافذة، ولم يعد للسوريين أي دور مؤثر في سيرورة قضيتهم، وهي بهذا السلوك تؤكّد على عقم واستلاب وعيها المنبعث من عدم إيمانها وثقتها بطاقات الشعب السوري الذي انطلقت الثورة من حناجر أبنائه وبناته، فضلاً عن أن وجهتها الدائمة شطر الخارج تعزز من قطيعتها مع الجمهور العام وتزيد من عزلتها عنه.

لا ريب في أن ترويج الأحزاب والقوى المعارضة لفكرة التعويل الكلّي على دور المجتمع الدولي وتغييب ومصادرة أي مبادرة أو فاعلية شعبية، قد أسهم إلى حدّ كبير في إضعاف ثقة السوريين بأنفسهم، كما أفقدهم الحافز على التفكير لإنتاج آليات ووسائل عمل إبداعية توازي عملهم الإبداعي الثوري كما تجسّد في آذار 2011.

لقد انقضت عشر سنوات من عمر الثورة، ولم تقدم الأطراف الخارجية للقضية السورية إلّا الخراب، إلّا أن خطاب النخب الحزبية والثقافية ما يزال استعلائياً مسكوناً باغتراب كبير عن الواقع، بعيداً عن تفاصيل الواقع السوري والشارع الثوري على وجه الخصوص، كما لا يزال محكوما بمرجعياته الإيديولوجية التي يؤكّد الواقع الراهن بطلان معظم مفاعيلها.

إن أي منجز ثوري مهما تعاظم شأنه، فإنه يبقى في حيّز التأثير المعنوي المحدود ما لم يتحوّل إلى منجز سياسي يمكن استثماره في تثقيل القضية السورية في المحافل الدولية

يمكن القول بمزيد من التأكيد إن علاقة الأحزاب بالحاضنة الشعبية للثورة باتت علاقة إشكالية، إلّا أن تلك الإشكالية لا تلغي أبداً تكاملية العلاقة والأدوار بين الطرفين، إذ لا يمكن لطرف أن يحقق أي منجز وطني دون تكامله مع الآخر، فما هو مطلوب هو تصحيح العلاقة وليس تأبيد أو استمرار القطيعة، وغني عن القول: إن أي منجز ثوري مهما تعاظم شأنه، فإنه يبقى في حيّز التأثير المعنوي المحدود ما لم يتحوّل إلى منجز سياسي يمكن استثماره في تثقيل القضية السورية في المحافل الدولية، وهذه العملية منوطة بقدرة الأطر السياسية على التفكير المستمر والمتجدد بمفاهيم وقضايا الثورة والعمل على استلهام الوعي الثوري للحراك والتفاعل معه، وليس تجاهله والاستعلاء عليه ووصفه بالشعبوية، ذلك أن الاستخفاف المزمن بفاعلية أي حراك شعبي سواء في السابق أو في الوقت الراهن، إنما يكشف عن نزعة هروب ومكابرة وإخفاء حالة العجز والخذلان المستشرية  لدى القوى والأحزاب أكثر مما يكشف عن صوابية توجهاتها.