ملاحظات أساسية حول مناورة الركن الشديد في غزة

2021.01.03 | 00:02 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

نفذت المقاومة الفلسطينية الأسبوع الماضي مناورة عسكرية شاملة في غزة أسمتها الركن الشديد. المناورة بدت تعبيراً عن الأزمة أكثر منها جزءاً من الحل، ورغم جوانب إيجابية فيها تتعلق بوحدة المقاتلين والأجنحة العسكرية والروح العالية لديهم، إلا أن سلبياتها أكثر وتتجاوز الإيجابيات، بالتأكيد تحديداً فيما يتعلق بعسكرة غزة بشكل تام ما يتناقض مع نهج المقاومة الشاملة المفترض اتباعه، ناهيك عن الدلالة المتمثلة بطي صفحة المصالحة وإطالة أمد الانقسام في المدى المنظور، كما أنها تلفت الانتباه عن الأوضاع الإنسانية الصعبة بل المأساوية التي تعيشها غزة، وأسوأ من كل ما سبق إعطاء الانطباع وكأنها تندرج ضمن التحركات الإقليمية الإيرانية في سياق التجاذب مع الولايات المتحدة "وإسرائيل" خاصة مع رفع صورة الجنرال قاسم سليماني بالتزامن مع انطلاق المناورة وكأنها تجري برعاية روحه "غير البريئة" أو للدقة رعاية خلفائه وأدواته في طهران وبيروت.

لا يمكن الحديث عن سبب محدد لمناورة الركن الشديد، وهل تأتي في سياق الرد على التحركات والمناورات الإسرائيلية الأخيرة والمعتادة في محيط غزة، علماً أننا نتحدث عن دولة معدل الدخل السنوي فيها، يعاد تقريباً ثلاثين ضعف نظيره بغزة، وهي مدججة بالأسلحة التقليدية وغير التقليدية ولا يمكن مجاراتها. في هذا المضمار دون أن يعني ذلك حتماً الاستسلام أمامها لا في الميدان ولا على طاولة المفاوضات، وإنما مواجهتها بذكاء وصبر ونفس طويل عبر حرب استنزاف طويلة وممتدة شعبية وسلمية بوتيرة منخفضة تمنعها من استخدام الحد الأقصى من قوتها ضدنا.

بالإمكان النظر إلى المناورة باعتبارها إعلاناً عن سيطرة حماس التامة ورفضها التخلي عن عسكرة السلطة في غزة رغم سوء وتردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية

في الأسباب يمكن الحديث أيضاً عن سعي حركة حماس القائد الفعلي للمناورة لاستغلال الفترة الزمنية قبل تولي جو بايدن الرئاسة الأميركية لاستعراض القوة "مجازاً طبعاً" مع الاقتناع أن الخيار العسكري سيزال غالباً عن الطاولة في عهد بايدن، ولن يكون مطروح جدياً لا فلسطينياً ولا إقليمياً أيضاً.

ومن هنا بالإمكان النظر إلى المناورة باعتبارها إعلاناً عن سيطرة حماس التامة ورفضها التخلي عن عسكرة السلطة في غزة رغم سوء وتردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية خاصة بعد تفشي جائحة كورونا.

أسوأ من كل ما سبق ربما إعطاء الانطباع أن المناورة تندرج إقليمياً ضمن السعار والحشد الإيراني في الذكرى السنوية لاغتيال قاسم سليماني الذي لم ترد عليه طهران حتى الآن خاصة مع المبالغة المريبة والمبتذلة في الحديث عن دوره بدعم المقاومة، كما رفع صورة  كبيرة له بأحد أكبر شوارع غزة قبل المناورة مباشرة للإيحاء أنها ضمن إرثه الفلسطيني المزعوم وتحت رعاية خلفائه وأدواته في طهران وبيروت، ورغم أن حماس نفسها لم تقم بوضع الصورة مع إحراجها باختيار عبارة رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية الشهيرة كعنوان لها "سليماني شهيد القدس" إلا أنها ما كانت لتوضع دون ضوء أخضر أو برتقالي منها، حيث لا يجري شيء في غزة أصلاً دون موافقتها أو عدم ممانعتها في الحد الأدنى.

لا يمكن التشكيك طبعاً وبأي حال من الأحوال في أهمية الوحدة الفلسطينية والاستفادة من الروح القتالية العالية للشباب الفلسطيني لتحقيق الآمال المشروعة في الاستقلال والسيادة وتقرير المصير، إلا أن المناورة بدت بحد ذاتها تعبيراً عن أو تأكيد للعسكرة الطاغية في غزة والتي أدت - ضمن أسباب أخرى طبعاً - إلى الاقتتال الداخلي والانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة واستمراره لعقود عوضاً عن تداعيتها السلبية الهائلة على كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، وقبل ذلك وبعده فشلها في رفع الحصار عن غزة رغم خوضها ثلاثة حروب تقليدية مع إسرائيل بأثمان باهظة جداً والعجز بالطبع عن تحريرها حيث ما زالت محتلة براً وجواً وبحراً.

وبناء عليه يمكن الاستنتاج أن المناورة قدمت إقرارا إضافيا بحقيقة إزاحة ملف المصالحة وإنهاء الانقسام عن جدول الأعمال الفلسطيني الداخلي، وهي تشبه من هذه الزاوية – والقياس مع الفارق طبعاً - عودة سلطة رام الله للتنسيق الأمني مع الاحتلال، علماً أن المصالحة تقتضي بالضرورة تقديم تنازلات متبادلة بين حركتي فتح وحماس تتعلق بالتحلل من الاتفاقيات مع إسرائيل والاحتكام إلى صندوق الاقتراع وتوحيد المؤسسات على قاعدة الشراكة، واتباع المقاومة الشعبية باعتبارها الوسيلة الأفضل والأنجع لانتزاع الحقوق ونيل التعاطف والدعم الإقليمي والدولي والتي تم التوافق أصلاً على تشكيل قيادة وطنية عليا لها أصدرت بيانها الأول بدعم كل الفصائل دون استثناء.

إلى ذلك بدت المناورة متناقضة تماماً مع الأوضاع الكارثية والمأساوية التي تعيشها غزة بشكل عام، وفي ظل جائحة كورونا بشكل خاص، ويمكن تخمين الكلفة الاقتصادية العالية لها التي كان من باب أولى إنفاقها للتخفيف قدر الإمكان من معاناة بسطاء الناس وآلامهم.

لا يمكن الحديث عن المناورة ودلالاتها دون الإشارة إلى تمزيق صورة سليماني ودوسها بالأقدام بعد انتهائها مباشرة

وبناء عليه تخلق المناورة صورة غير واقعية عن الأوضاع المأساوية وتراكم الصعوبات أمام طلب الإغاثة الإنسانية والخيرية لغزة وإقناع الناس بتقديم المساعدة عربياً وإسلامياً ودولياً، مع العلم أن نسبة البطالة والفقر فيها تتجاوز 50 بالمئة، وبينما يعتمد 80 بالمئة من السكان فيها على المساعدات والإعانات الغذائية من المنظمات الخيرية المحلية والدولية.

طبعاً لا يمكن الحديث عن المناورة ودلالاتها دون الإشارة إلى تمزيق صورة سليماني ودوسها بالأقدام بعد انتهائها مباشرة، والحدث حطّم بالتأكيد كل الإيحاءات عن دوره المزعوم في دعم غزة، كما عن السياق الإيراني للمناورة نفسها، كما أكّد استحالة استخدام غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام في سياق الصراع المستجد بين إيران وأميركا بعد عقد ونصف تقريباً من التواطؤ بينهما على المنطقة وأهلها في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان بينما كانت فلسطين مجرّد غطاء أو قناع للتغطية على السياسة الإيرانية الاستعمارية والدموية.  

في كل الأحوال ترسم المناورة صورة غير صحيحة أبداً، بل زائفة حتى عن الأوضاع في غزة، ولا بأس من التأكيد أننا بحاجة للمقاومة بكل أشكالها لا العسكرة الكارثية والمدمرة، علماً أن الفرق شاسع جداً بينهما ونراه على أفضل ما يكون في لبنان المدمر والمحروق مع الانتباه إلى أن ساحة المقاومة الرئيسية في فلسطين هي الضفة الغربية بما فيها القدس لا غزة، ولا شك أن المقاومة الشعبية السلمية هي الخيار الأفضل في ظل الظروف المأساوية التي تعيشها فلسطين والمنطقة، وعوضاً عن نتائجها العالية والمضمونة وكلفتها المعقولة خاصة أننا نخوض صراع ماراتوني ضد المشروع الصهيوني، فإنها كفيلة بمنع إيران وأدواتها من المتاجرة بالقضية الفلسطينية للتغطية على تواطئهم مع الغزاة وجرائمهم بحق إخواننا وأهلنا في سوريا والعراق ولبنان واليمن.