مفاوضات تثبيت ذهنية السيطرة

2019.11.30 | 17:58 دمشق

580_3.jpg
+A
حجم الخط
-A

فيما تستمر عملية الجرجرة التي بدأ النظام السوري بممارستها، منذ فرض مبادئ جنيف1 في 30 يونيو/ حزيران 2012، التي أقرتها آنذاك "مجموعة العمل من أجل سوريا"، حتى الاجتماع الأخير لجنيف 2019 لمباحثات اللجنة الدستورية بين وفدي المعارضة والنظام، وما بينهما من اجتماعات في سوتشي وأستانا، يقدم المشهد السوري العام صورة بالغة الوضوح عن تناقض مازال يتعمق، ويتسع، حتى بلغ درجة الانفصال بين الأطراف المدعية تمثيل الشعب السوري، وشعب يواصل معركته، وتصديه لنظام لا يستطيع مغادرة طبيعته، وأهدافه، التي تقوم على السيطرة بالتدمير الشامل، والقمع الفاشي والإلغاء الكامل لحق الشعب السوري بالحرية والكرامة والمواطنة.

مرت سنوات سبع منذ جنيف1، وقع السوريون خلالها في قاع الهاوية السحيقة التي حُفرت لهم، تضاعف الدمار، وتواصل القمع والاعتقال والقتل، وتجاهل المجتمع الدولي أبسط المطالب المعنية بحمايتهم من بطش النظام وقوى الاحتلال المساندة له، ولهذا فإن استعدادات الشعب السوري للصمود لم تكن قليلة، ومن خلفه كانت "المعارضة السورية" بفصائلها وأحزابها وهيئاتها، تحمل تصميم منخفض ومغاير على تحمل الأعباء، والتضحيات التي تترتب على مواجهة نظام كنظام الأسد الممتدة جذوره الوظيفية عميقا في المنطقة والإقليم، بل لعل من أميز ما يميز ثورة السوريين

يقف السوريون اليوم على محنة مركبة التعقيد في الشمال السوري أتقن النظام السوري وحلفاؤه فيهما في نشر الدمار والقتل والرعب والتهجير، إضافة للتحريض المستمر على السوريين النازحين واللاجئين

تحذيرها شعبها، منذ اللحظة الأولى، مما يمكن أن تقع به الثورة من مجابهات، وتحذير فصائلها وهيئاتها الوقوع في مطبات وكبوات قاتلة، جعلت من السوريين يبذلون أعظم التضحيات، لمواجهة حرب التصفية للثورة، المستمرة حتى اللحظة

أياً تكن المحاذير المطلقة سابقاً، أو المناشدات التي صدحت بها حناجر وبيانات السوريين على المتدخلين في اجندات لا تعني مصلحتهم، فإن خطر الأجندات، فاق جميع ألوان المحاذير ضرراً وشرراً، حتى  بتنا قاب قوسين أو أدنى من التضعضع الذي شهدناه على الجبهات العسكرية في أرياف إدلب وحماة وحلب، وبنفس القدر من التحذير الذي لم يستطع الاحتفاظ  بمدن وقرى وأرياف سوريا من الجنوب إلى الشمال، يقف السوريون اليوم على محنة مركبة التعقيد في الشمال السوري أتقن النظام السوري وحلفاؤه فيهما في نشر الدمار والقتل والرعب والتهجير، إضافة للتحريض المستمر على السوريين النازحين واللاجئين.

يقول علماء النفس إن المتلقي لدوامة التحريض المستمر ليلاً ونهاراً، كثيراً ما يعود به الذهن إلى أشكال بدائية من الولاءات الغيبية وفقدان القدرة على التفكير، كما أن التحريض المستمر والمكثف الذي يقوده النظام الأسدي مع كل من موسكو وطهران على السوريين، والمعتمد على نشر الخوف في قلوب السوريين المنضوين تحت سيطرة الأسد، يراد منه تعزيز حاجتهم إلى الإثارة المرتبطة بالخوف من فقدان الأسد لوظيفته في قهرهم، ومن الأمور التي تلفت النظر، وفي هذا الجانب بالذات، تركيز موسكو والنظام وكل المجتمع الدولي الحديث على محاربة الإرهاب في سوريا، بالتوازي

تبرير جرائم الأسد وإهمالها، رغم أطنان الأدلة والوثائق التي يعرفها كل العالم ومنظماته، كما يبرر استمرار ارتكاب الفظائع والصمت المريب حولها

مع حديث "العملية السياسية في أستانا أو جنيف" التي ترعاها موسكو، وتراجع الاهتمام الدولي بها وترك جنيف1 ومقرراتها، واستبدالها بعبارة "فرض الأمن" أو سيطرة "القوات الحكومية"، إنما يُراد من كل ذلك ضرب ثلاث أهداف دفعة واحدة:

الأول: إلغاء الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة للثورة السورية، كما تُلغي مسؤولية الأسد كمجرم حرب في المقام الأول، ووضع تبعة كل المآسي التي تعرض لها السوريون، من مظالم وكوارث وجرائم على المستجد الذي أحدثه النظام وقوى الاحتلال الروسي والإيراني مع عصاباتهم في "الإرهاب" المسلط على رقاب السوريين.

الثاني: تبرير جرائم الأسد وإهمالها، رغم أطنان الأدلة والوثائق التي يعرفها كل العالم ومنظماته، كما يبرر استمرار ارتكاب الفظائع والصمت المريب حولها.

الهدف الثالث والأخير: يكشف ما يريده المجتمع الدولي، وما يمثله في وظيفة النظام واستمراره حتى اليوم في مهمته المتزعزعة للقمع الداخلي، والثابتة في مهامه الإقليمية إسرائيلياً وأميركيا، ومن البديهي أن تتجه الوحشية نحو الشمال أُسوةً ببقية المناطق المسيطر عليها بوحشية ودمار غير مسبوقين.

وعلى هذا الأساس، يكون النظام وحلفاؤه، أعادوا بصورة ذهنية بحت، تركيب سوريا التي يريدها النظام وموسكو وتل أبيب وطهران، وبقية منافقي العالم المتحضر، بإعادة عصابات النظام لعملها الأساسي، الكامن منذ خمسة عقود في قهر السوريين وظلمهم، فيما علائم التقدم نحو التمزق تخطو للذروة، يبقى السؤال عن جدوى المفاوضات على دستور لا يكون بنده الأول  تقديم النظام وأركانه لمحاكم دولية عن جرائم وفظائع لن تنتهي إلا مع نهايته، وفي مثل هذه الحال فإن الشعب السوري مصمم على نيل حريته ومواطنته وكرامته والظفر بالعدالة مهما بدا الأفق بعيداً.