مفارقات سورية مدهشة

2022.09.05 | 06:20 دمشق

مفارقات سورية مدهشة
+A
حجم الخط
-A

لعل أبرز تلك المفارقات المدهشة  والتي يبدو أنها خاصيّة سورية أنه في الوقت الذي تعج به صالة المغادرين في مطار دمشق بالسوريين شبه الناجين (لن يكونوا ناجين تماما ما لم يغادروا الأجواء الإقليمية السورية) عدا عشرات الآلاف من السوريين الذين يذهبون يوميا لمراكز الهجرة والجوازات التماسا لجواز سفر يمتطونه في رحلة نحو المجهول الذي يبقى مهما كان صعبا ومريرا ومجهولا أكثر رحمة وأمانا من البقاء في ذلك الماخور الكبير الذي اسمه سوريا الأسد، التي يستباح فيها كل شيء على يد طاغيتها وزبانيته وشيعته فلطالما كانت المقايضة معقودة لمعادلة (الأسد أو نحرق البلد)، في هذا الوقت تماما يتم بالمقابل إعادة أو العمل على إعادة عشرات الآلاف من السوريين أيضا من ملاجئهم الآمنة – نسبيا – إلى بلدهم بزعم أن بعض مناطقها صارت (آمنة) وتصلح للعيش فيها!!!.

منظمة هيومن رايتس ووتش قالت في تقريرها المعنون (حياة أشبه بالموت) الصادر في شهر تشرين الأول من العام 2021 (إن اللاجئين السوريين العائدين إلى سوريا من لبنان والأردن بين عامي 2017 و2021 واجهوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان واضطهادا على يد الحكومة السورية والميليشيات التابعة لها)  وقالت  ناديا هاردمان الباحثة في شؤون اللاجئين والمهاجرين: "الروايات المروعة عن التعذيب والاختفاء القسري والانتهاكات التي تعرض لها اللاجئون العائدون إلى سوريا ينبغي أن توضح أن سوريا ليست آمنة للعودة. الانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الملكية وغيرها من الصعوبات الاقتصادية تجعل أيضا العودة المستدامة مستحيلة بالنسبة للكثيرين".

ميقاتي هو نفسه الذي لا يجرؤ وهو رئيس الحكومة اللبنانية أن يطلب من حزب الله انسحاب قواته على الأقل من القرى والبلدات السورية الحدودية التي احتلها وهجّر أهلها

مع ذلك يكاد لا يمرّ يوم لا يطلق فيه مسؤول لبناني تصريح بوجوب عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، لعل أكثرها صفاقة ما صرح به نجيب ميقاتي رئيس الحكومة عندما قال: إن حكومته مستعدة لطرد اللاجئين السوريين الذين يعيشون في بلاده بالقوة ما لم يساعد المجتمع الدولي في إعادتهم إلى بلادهم.. ميقاتي هو نفسه الذي لا يجرؤ وهو رئيس الحكومة اللبنانية أن يطلب من حزب الله انسحاب قواته على الأقل من القرى والبلدات السورية الحدودية التي احتلها وهجّر أهلها وهم أنفسهم أولئك اللاجئون الذي يهدد بإعادتهم بالقوة!!!.  لبنان هو نفسه الذي سبق أن جاء منه موجتان كبيرتان من اللاجئين إلى سوريا عام 1975 عقب بدء حرب أهلية طالت خمس عشرة سنةً، وعام 2006 عقب حرب تموز التي شنتها إسرائيل عليه، يعلن اليوم ويخطر السلطات السورية أنه بصدد إعادة خمسة عشر ألف لاجئ سوري شهريا من أراضيه إلى سوريا غير عابئ بمصير هؤلاء وماينتظرهم من تنكيل على يد جلاوزة النظام، وهو الذي سبق أن جرب وأعاد عددا من اللاجئين فكان مصير بعضهم الموت وبعضهم الآخر الاعتقال والاغتصاب كما اعترف بذلك وزير شؤون النازحين معين المرعبي عام 2018  في تصريح لجريدة الحياة اللندنية آنذاك.

واللافت في كل هذا أننا لم نسمع صوتا ولم نر تحركا أمميا لكبح جماح جائحة إعادة اللاجئين وإلقائهم بين فكي الأسد، بما يشبه إقراراً صامتاً لخطط إعادة السوريين إلى بيت الطاعة الأسدي!!!.

في تركيا وعلى وقع خطاب عنصري نشاز أخذ يعلو صوته من أواخر 2019 لم يلق ردا قانونيا حازما من الحكومة رغم تسببه بالعديد من الحوادث والاعتداءات العنصرية ضد سوريين أفضت إلى مقتل العشرات منهم (!) انطلقت أولى موجات الترحيل القسري للاجئين السوريين بعضها محق وكثير منها غير ذلك، وماتزال وتيرتها تتسارع وتتصاعد على وقع ما يفرضه ارتفاع منسوب ذلك الخطاب العنصري المقيت من استجابة حكومية غير مفهومة في محاولة على ما يبدو لانتزاع ورقة اللاجئين من يد المعارضة والمتاجرة بها في البازار الانتخابي، لكن اللاجىء وحده في الحالتين هو الوحيد الذي يدفع الثمن ليس فقط في الترحيل لأعداد كبيرة منهم بشكل تعسفي في معظم الأحيان وإنما أيضا في سلسلة من القرارات والإجراءات الحكومية التي يمكن اعتبارها تضييقية على الناجين من الترحيل في رسالة مؤداها أنك أيها السوري لن نسمح أن يداخلك الشعور بالاستقرار هنا، فإن لم يتم ترحيلك اليوم فإن غدا لناظره قريب!!!.

كل ذلك قبل أن يتم الإعلان بشكل رسمي عن ما سُمي (مشروع العودة الطوعية) لمليون سوري إلى مناطق الشمال، وقبل أن تسرب صحيفة (تركيا) المقربة من الحكومة الحالية تفاصيل أكثر عن المشروع الذي سيشمل مبدئيا مليونين ونصف المليون من اللاجئين السوريين، مليون منهم إلى المستوطنات السكنية التي يجري إعمارها على قدم وساق في العديد من مناطق وبلدات الشمال السوري، ومليون ونصف المليون إلى مناطق في حلب وحمص ودمشق – مبدئيا – سيتم الاتفاق عليها وعلى آليات حماية العائدين أو المعادين وسبل دعمهم لترميم مساكنهم وبعض البنى التحتية (!) مع النظام السوري التي توسعت أقنية الاتصال والتواصل معه لهذا الهدف ولهدف محاولة عقد اتفاق بينه وبين المعارضة ينهي الصراع وفق موجبات خطة السلام الدولية كما صرّح بذلك وزير الخارجية التركي عقب لغط حول تصريح سابق له قيل إنه ناجم عن خطأ في الترجمة.

أيضا في هذا السياق لم نقرأ ولم نسمع أي موقف دولي جدي وموضوعي بشأن مسألة إعادة اللاجئين وما إذا كانت تلك الخطة تتوافق مع الموجبات القانونية للعودة الطوعية والآمنة والكريمة التي طالما تشدقت بها دول عديدة في الشرق والغرب دون أن يكون لها أثر وكأن القط أكل لسان المسؤولين الأمميين وهو ما يشي بوجود موافقة دولية مضمرة وصامتة على قضية عودة أو إعادة اللاجئين كيفما اتفق باعتبار أن الكل متفق على بقاء الأسد ونظامه وطغمته التي دمرت حاضر ومستقبل السوريين لأجيال.

كل هذه الدول أعلنت عن سقوط شرعية النظام لكنها أبقت عليه في محافلها الدولية ممثلا للدولة السورية وعنوانا ثابتا لخطابها وتواصلها بل وحالت دون تشكيل البديل

هي مفارقات مدهشة حقا.. لكنها وعلى خلاف عنوان المقال ليست فقط مفارقات سورية بل هي مفارقات دولية سياسية وقيمية وقانونية واقتصادية لا يتسع الحيز لتفنيدها هنا، لكنه بالقطع يتسع للقول إن كل الدول التي جهرت بموقف معاد للنظام السوري لم ترد قط إسقاطه بل وعملت وسخّرت جهودها للحؤول دون ذلك وتلك واحدة من المفارقات..(!!)

 وكذلك كل هذه الدول أعلنت عن سقوط شرعية النظام لكنها أبقت عليه في محافلها الدولية ممثلا للدولة السورية وعنوانا ثابتا لخطابها وتواصلها بل وحالت دون تشكيل البديل وأفشلت كل جهد في هذا السياق (!).

وكل هذه الدول اعتبرت السلطة الحاكمة طغمة قاتلة وساقت الأدلة بالأطنان على ارتكابه مختلف أنواع الجرائم المصنفة كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم ليس لها تصنيف قانوني دولي بعد لكونه السبّاق في ارتكابها لكنها في الوقتة ذاته حالت وتحايلت على أي جهد حقوقي لمحاسبته على تلك الجرائم ومحاكمة مرتكبيها(!)  

وكلّ هذه الدول فرضت علنا عقوبات اقتصادية لكنها دائما ما كانت تجد البدائل لتغذية إمكانيات واحتياجات هذا النظام بالمال مرة باستثناءات محددة من نظام العقوبات، ومرات بمشاريع التعافي المبكر الذي اخترعته كبديل مؤقت عن برنامج إعادة الإعمار.

هو العهر العلني الذي يمارسه العالم كله بحق السوريين تحت تسمية السياسة، وهو الجريمة (المشروعة) التي يعلنها العالم بكل فجور بحق السوريين عندما يقرر إعادة الناجين منهم مرة أخرى إلى المقصلة.