معضلةُ العملِ الإغاثيّ في الأزمات الطّويلة

2020.06.20 | 00:00 دمشق

20200610_2_42895925_55809627.jpg
+A
حجم الخط
-A

الإغاثة الإسعافيّة للأزمات الطّارئة لا الطّويلة

إنَّ التّعامل مع الأزمات الطّويلة بطريقة الإغاثة الإسعافيّة يمثّل إشكالًا عميقًا في منهجيّة تعامل الجمعيّات الخيريّة، فالإسعاف العاجل هو أحد أهمّ صور العمل الخيري الذي يجبُ أن تبادر المؤسسات إلى التحضير له قبل الكوارث المتوقّعة والمرتقبة، كفصل الشتاء والعواصف الثلجيّة التي تستهدف خيام اللاجئين ومواطن مكوثهم، وكذلك الإسراع للنجدة بعد وقوع الطارئ من الكوارث كالقصفِ والتدميرِ والتّهجير المفاجئ.

وقد أسّست الشريعة الإسلاميّة لهذا المعنى في مواضع كثيرة منها: ما ينقله الصّحابيّ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فيما رواه مسلم في صحيحه؛ قال: "بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل على راحلةٍ فجعل يضرب يمينا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، يقول أبو سعيد: فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حقّ لأحدٍ منّا في فضل".

فقد استشعر النبي صلى الله عليه وسلّم حاجة الرّجل المنكوب دون إلجائه إلى الاستغاثة والاستصراخ، وسارع إلى إسعافه إغاثيًّا مستنفرًا الطّاقات كلّها رغم أنّه كان في سفرٍ، وعادةً ما يكون النّاس في السّفر قليلي المال وفي حاجةٍ إلى كلّ ما يحملونه منه.

وكذلك هي الحملات الإغاثيّة التكافليّة العاجلة تصلح في الحالات الإسعافيّة الطارئة والمداهمة، وهذا ما كان يفعله أهل اليمن الأشعريّون كما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاريّ ومسلم وهو يمتدح سلوكهم إذا أصابتهم شدّة في سفرٍ من أسفارِهم أو غزوة من غزواتهم:

"إنّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمّ اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسويّة، فهم منّي، وأنا منهم"

 غير أنَّ هذا النّوع من الإسعاف الإغاثيّ ليس هو الأصل في العمل الخيريّ المطلوب في الأزمات الطّويلة ومنها الأزمات التي ولّدها الاحتلال الصّهيونيّ نتيجة التهجير والحصار، وكذلك التي أنتجها القمع الوحشيّ للثورات في سوريا واليمن وغيرهما على سبيل المثال.

من الإغاثة إلى التّنمية

إنَّ جوهر العمل الإغاثي والخيري الأصيل يقوم على التنمية الشّاملة لا سيما في الأزمات الطّويلة، التّنمية القائمة على الانتقال بمتلقّي المساعدات والمحتاجين إليها من السلبيّة إلى الإيجابيّة والفاعليّة، وبناء الفرد القادر على الاعتماد على نفسه، المساهمِ في الإنقاذ بعد انتشاله من أعماق الحاجة، ونشر ثقافة اليد العليا المعطية وعدم استسهال القبول باليد السفلى الآخذة.

وانتهاج التنمية يفرض على المؤسسات الخيرية العاملة في مجتمعات الأزمات الطويلة استثمار المقدرات المالية، وتحويلها إلى فرص عمل بدل توزيعها بالطّريقة النمطيّة.

وهذا ما رسّخه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة، وأراد الأنصار قسمة مزارع النخيل التي يملكونها مناصفةً مع المهاجرين.

فرفضَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من المهاجرين هذا التّوجّه وأمر بالتحوّل إلى أسلوبٍ آخر، وهو بقاء ملكيّة مزارع النخيل لأصحابها من الأنصار على أن يقوموا بفتح أبواب العمل وتهيئةِ فُرَصِه أمام المهاجرين للعمل في هذه المزارع، على أن تكون الثمرة شراكةً بين الطرفين.

ففي صحيح البخاريّ "عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالت الأنصارُ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اقسم بينَنَا وبين إخواننا النّخيل، قال: لا؛ فقالُوا: تكفونَا المؤونة ونشرككم في الثّمرة، قالوا: سمعنَا وأطعنَا".

ومن التّنمية المطلوبة التّوقف عن البذل المالي النمطيّ للطلّاب، واستثماره في توجيههم إلى التخصصات الدّراسيّة التي يحتاجها المجتمع لتحقيق التحرير والتغيير والبناء والإصلاح المرتجَى، لا سيما في ظلّ هذه العشوائيّة الكبيرة والتّيه عند شباب بلاد الأزمات، وغياب الموجّه الرّاشد الذي يجب أن يكون جزءًا من العمل الخيري التعليمي.

مخاطرُ عدم التّحوّل من الإغاثة إلى التّنمية

إنَّ عدم التحول في العمل الخيري من الإغاثة إلى التنمية في الأزمات الطويلة ينذر بترسيخ أثرين خطيرين هما:

أولًا: نشر ثقافة التسوّل الخفي

 فعندما يعتاد النّاس استقبال المعونات الماليّة والعينيّة بشكلٍ دوريّ لمدّةٍ طويلةٍ؛ فإنَّ هذا يساهم في نشر الخمول وصناعة الكسل وتكريس مفهوم التسوّل غير الصّريح، ممّا ينذر بخطر جسيم يتهدّد المجتمع عند انجلاء الأزمة أو انقطاع الدّعم.

والذين تعشّش فيهم هذه الثقافة لا يمكنهم أن يكونوا جزءًا من البناء الذّاتي الشّخصي أو المجتمعيّ العام، فاستمرار الإغاثة النمطيّة في الأزمات الطويلة على قاعدة اصطياد السمك للفقير وعدم تعليمه الصّيد يقضي على المستهدف بالمساعدة؛ فيزيده غرقًا بدل انتشاله والنهوض به ومساعدته في الانطلاق من جديدٍ في دروب الحياة الوعرة

ثانيًا: استدامةُ الفقر والحفاظ على العوز

إنَّ الغاية من العمل الخيري ـ من حيثُ الأصل ـ هي اجتثاث الفقر والقضاء عليه، وإنهاء الحاجة ومظاهرها، وتحقيق عوامل الاكتفاء والاستقرار في المجتمع؛ لكنَّ الاستمرار على المنهجيّة ذاتها القائمة على كون الجمعيّات الخيريّة مجرّد ساعي بريد بين الغنيّ والفقير "تجمع التبرعات وتعيدُ توزيعها"، لا يمكن له أن يحقّق الغاية من العمل الخيري.

فما دامت النمطيّة الإغاثية هي السائدة من حيث الابتعاد عن التنمية، وتقطير توزيع التبرعات وتشطيرُها وتفتيتُها تحت فلسفة تعميم الخير على أكبر شريحةٍ أفقيّة؛ فإن ذلك لا يحقّقُ أكثرَ من تقليم بعض فروع شجرة الفقر ومفرزاته التي يزداد جذرها رسوخًا وعودها اشتدادًا، سيندم كثيرون إن استمرّ الحال على ما هو عليه حين لا ينفع عضّ الأصابع.

كلمات مفتاحية