مظاهرات الشمال السوري

2022.08.21 | 07:10 دمشق

مظاهرات الشمال السوري
+A
حجم الخط
-A

لم تكن المظاهرات التي حدثت في الشمال السوري الأسبوع الماضي ردّاً فقط على تصريح جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، الذي أدلى به مؤخراً في اجتماع مع بعض السفراء الأتراك، وإن كان الحديث هو الشرارة التي أشعلت الحريق، وخاصة إذا نظرنا إلى الشعار الذي رفعته: لن نصالح. فقد عبرت المظاهرات عن أمرين أساسيين: الأول، الرفض المطلق للتصالح مع نظام الأسد والمطالبة بإسقاطه ومحاكمة رموزه، والثاني، الاحتجاج على مظالم متراكمة عديدة، تعتبر الدولة المشرفة هي المسؤولة عنها، مثل تدهور الوضع المعيشي لعموم السوريين، مهما كانت شريحتهم الاجتماعية، وعلى واقع التعليم والخدمات، وأخيرا على حالة التجييش التي تحدث كل فترة حول تحرير مناطقهم الأصلية التي أجبرتهم قوات النظام وقوات الاتحاد الديمقراطي على هجرها.

لم يحتج السوريون في الشمال ترفاً على تصريحات وزير الخارجية التركي، وإنما لأنهم يعرفون تماماً، وهم الذين خبروا بأجسادهم وحشية هذا النظام في بداية الثورة سواء في المواجهات المباشرة مع المتظاهرين في الشارع، حيث الرصاص هو الأسلوب الوحيد للنظام، أو في المعتقلات التي يفوق التعذيب فيها أبشع ما خبرته البشرية عن أسوأ أنظمة القمع، وحتى المتخيّلة منها، فضلاً عن القصف الوحشي بمختلف صنوف الأسلحة التي حولت البلاد إلى حطام، كل ذلك حتى لا يستجيب لمطالب الناس البسيطة في العيش بكرامة وحرية، وتركيا تعرف أكثر من غيرها، إذ حاولت في البداية تقديم النصائح للنظام عبر وزير الخارجية وقتها، أحمد داوود أوغلو، لكنها لم تحصل على نتيجة سوى الرفض والإصرار على أسلوبه الوحيد في المواجهة، وهو القتل.

هدف المظاهرات هو التعبير عن رفض التصالح مع النظام الإبادي، والرفض لتصريح وزير الخارجية، وهذا حق مشروع للسوريين الذين دفعوا ثمناً باهظاً في ثورتهم ضد هذا النظام

على ضوء هذه الخلفية، فقد وقع عليهم تصريح الوزير كالصاعقة، وولد مباشرة ردود فعل غاضبة، فخرجت ليلة الخميس 11 من الشهر الحالي مظاهرة تجوب مدينة اعزاز ليلاً، وتعبّرُ عن هذا الغضب والاحتقان، وخاصة من الوعود بعملية عسكرية لتحرير البلدات التي تحتلها قسد وروسيا والنظام، اندفع أحد المواطنين المهجرين في تصرفٍ غير محسوب إلى حرق العلم التركي، فهو لا يعرف – كما الساسة- متاهات السياسات الدولية وطرق التسويات والموافقات المطلوبة لتحرير بلداتهم، وخاصة في ضوء التحضير والضخ الإعلامي حول بدء عملية التحرير. سرعان ما عمل المتظاهرون في اليوم التالي على التنبيه لخطورة ذلك، وطالبوا بعدم الاقتراب من العلم كرمز وطني لدولة صديقة وداعمة، وأن هدف المظاهرات هو التعبير عن رفض التصالح مع النظام الإبادي، والرفض لتصريح وزير الخارجية، وهذا حق مشروع للسوريين الذين دفعوا ثمناً باهظاً في ثورتهم ضد هذا النظام الإبادي، فمن غير المعقول لهم الجلوس معه على طاولة "مصالحة" فقط.

والأمر الآخر الذي يفسر شدة هذا الغضب، هو مجموعة ممارسات عدّها السوريون عموماً امتهاناً لهم، ونذكر منها فصل بعض الموظفين تعسفياً، وحال التعليم والمعلمين وكذلك الأطباء. أما حالة المجالس المحلية وما يتفرع عنها، حيث يتم تعيينها وفقاً لتوازنات وولاءات معينة، ومن البديهي أن يقدم من يُعين كشف حسابه إلى من يعيّنه لا إلى الجمهور الذي يزعم هذا المجلس بأنه يخدمه. فبدلاً من أن يقدم الشمال السوري كمنطقة محررة نموذجاً لسوريا المستقبل في الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات والتخلي عنها أيضاً بموجب إرادة الناخبين، يجد الناس أن تلك الهياكل تكرر تجربة كانت أحد الأسباب في انطلاق الثورة، وهي قضية التعيين والفرض لأسباب تتعلق بالمصالح الكبرى التي لا "يدركها" عقل المواطن العادي.

 ربما ما كان يزيد التوتر والاحتقان بين السوريين في الشمال، أنهم لا يتلقون رداً رسمياً من أي جهة على احتجاجاتهم التي جرت أكثر من مرة، ضد فصل الطبيب حجاوي في العام الماضي، وإضراب المعلمين في بداية العام حول واقعهم المعاشي وحال التعليم، واحتجاجات الأطباء مؤخراً على الفروق الكبيرة مع نظرائهم الأتراك، وآخرها احتجاجات الطلبة حول نتائج الشهادة الثانوية، سوى تناقل شفهي لوعود بأن مطالبهم موضع دراسة، وبأنها تلاقي الاهتمام من الجهات المعنية، فصحيح أنه يمكن الاحتجاج والتظاهر وتنظيم الوقفات، لكن شعورهم أن لا أحد يسمع أنين وجعهم يراكم في عمق أنفسهم شعوراً بالمرارة يمكن في لحظة ما أن ينفجر بصيغ مختلفة.

ما ينبغي التذكير به هو أن عدو السوريين هو النظام السوري والحلف الموالي له، فهو من قتل وهجر ودمر، وألا يدفعنا رفضنا ويأسنا إلى خلق أعداء بدلاً من كسب أصدقاء

ضمن هذا السياق يمكن تفهم رد الفعل ضد تصريح وزير الخارجية الأخير، الذي أصبح الموضوع الرئيسي لدى النخبة السياسية التركية الحاكمة والمعارضة لأسباب داخلية وخارجية، مما يشير إلى جدية الموضوع، وهذا ما يرفضه السوريون بصرختهم (لن نصالح) في المظاهرات الأخيرة ليقولوا بأنهم اللاعب الأساسي وهم متمسكون بجوهر قضيتهم وهو الخلاص من نظام الاستبداد، لا تعويمه. لكن ما ينبغي التذكير به هو أن عدو السوريين هو النظام السوري والحلف الموالي له، فهو من قتل وهجر ودمر، وألا يدفعنا رفضنا ويأسنا إلى خلق أعداء بدلاً من كسب أصدقاء، مستفيدين من تجارب التاريخ في انتصار الثورات من الثورة الفرنسية إلى الروسية إلى الفيتنامية، فرغم وجود كثير من الفوارق، هناك أمر واحد مشترك: الاعتماد على دعم خلفي من إحدى الدول التي تتقاطع مصالحها مع مصالح الثورة، بالطبع دعم وتبادل مصالح وليس ارتهاناً.