مطار منغ 2013.. معركة داعش الاستعراضية

2020.09.15 | 00:04 دمشق

2-6745.jpg
+A
حجم الخط
-A

عمل تنظيم داعش منذ الإعلان عن تأسيسه في أبريل\ نيسان عام 2013، في المناطق المحررة في سوريا على سد الفراغ الذي نجم عن تخلخل بنية جبهة النصرة وانحسار نفوذها في الشمال السوري لحساب التنظيم، كون الأخير قد تشكلت نواته الصلبة أساساً من المنشقين عن جبهة النصرة والمستجيبين للتسجيل الصوتي الذي أصدره "البغدادي" معلناً عن تشكيل "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، حيث تمكن التنظيم في الشمال السوري من السيطرة على معظم مقدرات جبهة النصرة ومقراتها.

ولم يقتصر الفراغ الذي عمل التنظيم على سده على النفوذ الذي كانت تتمتع به جبهة النصرة في المناطق المحررة، ودورها الأمني والدعوي، بل وعلى العمل العسكري الاستعراضي الذي حرصت عليه جبهة النصرة كجزء من سياستها الإعلامية الرامية لوضعها في مستوى مختلف ومتقدم على باقي التشكيلات العسكرية في سوريا.

فقد سبق للذراع الإعلامي لجبهة النصرة (المنارة البيضاء) في الفترة الممتدة على أواخر عام 2012 وبدايات 2013، أن أصدرت عدداً من الأفلام الوثائقية والدعائية لعدد من المعارك التي خاضتها وكان النصر فيها حليفها، فضلاً عن عدد من العمليات الأمنية التي ضربت فيها النصرة أهدافاً ثمينة لنظام الأسد، مستثمرة إياها إعلامياً لتأكيد تفوقها.

ومع الاتهامات المتبادلة بين النصرة وداعش حول مشروعية تمثيل "المشروع الجهادي"، واعتماد النصرة على إرثها العسكري في الترويج لكون حالة الانشقاق التي سببها تنظيم داعش في صفوفها قد أثرت على العمل العسكري، متسببة في توقف معارك التحرير، بادر التنظيم إلى حشد جهوده ضمن عدد من الجبهات لدحض هذه الاتهامات، وكان لكتائبه مشاركات فاعلة في عدد من المعارك التي كانت ما تزال فصائل الثوار في الشمال السوري تخوضها بشكل مشترك مع التنظيم ضد قوات نظام الأسد.

لكن أياً من هذه المشاركات لم تكن كافية للرد على دعاية النصرة ضد داعش، حتى جاءت معركة مطار منغ العسكري، والذي يقع على تخوم قرية منغ في ريف حلب الشمالي قريباً من الحدود السورية التركية، حيث كانت فصائل الجيش السوري الحر قد تمكنت من تحرير المنطقة أواسط العام 2012، قبل اندماج معظمها ضمن لواء التوحيد وتحريرها الأحياء الشرقية من مدينة حلب في يوليو \ تموز عام 2012، لكن قوات النظام تمكنت من الحفاظ على سيطرتها على المطار الذي أطبق ثوار الشمال حصارهم عليه أواخر العام نفسه، وعلى مدار النصف الأول من عام 2013 شنت فصائل الجيش الحر عدداً من المعارك لتحرير المطار دون أن يكتب لأي منها النجاح، رغم تمكنهم في بعضها من السيطرة على بعض الكتل التي تحصنت فيها قوات النظام في محيطه.

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "ريف حلب الشمالي محرراً .. الجزء الأول"

مطار منغ العسكري 

أواسط العام 2013 كان مطار منغ العسكري قد أصبح إحدى القصص التي يتندر بها المدنيون والناشطون الثوريون على الجيش الحر، لفشلهم في تحريره رغم مرور نصف عام على حصارهم له، بل إن هذه القصص كانت تتجاوز الاتهام لهم بـ "عدم الكفاءة" إلى الطعن بإخلاصهم، والغمز بتعاملهم مع قوات النظام وامتناعهم "طوعاً" عن اقتحامه!

وهذا -ربما- ما دفع تنظيم داعش لاختيار مطار منغ ليكون معركته الاستعراضية، زاجاً ببعض مجموعاته في محيط المطار لتنظيم العمل على تحريره، ومعوضاً نقص الأعداد لديه بالتحالف مع "أبو عمر الشيشاني" قائد ما عرف

اعتمد الشيشاني في معركة مطار منغ على أسلوب مغاير لما اعتادت النصرة العمل عليه في معاركها

آنذاك باسم (جيش المهاجرين والأنصار)، والذي دخل إلى المعركة ككتلة واحدة مع مجموعات داعش أواسط العام 2013، وكانت مجموعات التنظيم وجيش المهاجرين والأنصار تستجيب له كقائدها في هذه المعركة لما له من خبرة عسكرية.

اعتمد الشيشاني في معركة مطار منغ على أسلوب مغاير لما اعتادت النصرة العمل عليه في معاركها، من الاستعانة -غالباً- بمقاتليها فقط، والتنسيق والتخطيط منفردة عن التشكيلات الأخرى في الجبهة نفسها التي تستهدف العمل عليها، بينما تعامل الشيشاني مع جميع الكتائب المحاصرة للمطار من مختلف التشكيلات -حتى تلك التي كان جهاز الإشاعة لدى التنظيم يهاجمها ليل نهار متهماً إياها بالفساد- كمجموعة واحدة.

وكان أول ما أنجزه في المعركة هو العمل على تجانس الكتلة العسكرية المحاصرة للمطار، من خلال تكثيف الدروس الشرعية لجميع المقاتلين من مختلف الكتائب الذين كانوا يتجمعون أمام "شرعيين" مبايعين للتنظيم يزورون مقارهم بشكل دوري، وهو ما كان من شأنه رفع الروح المعنوية لهم وتحضيرهم نفسياً للأيام القادمة التي سيكون عليهم فيها الانضباط وتكثيف العمل لتحرير المطار، فضلاً عما لهذا من دور كبير في نشر منهج التنظيم لهؤلاء المقاتلين.

كما فعّل الشيشاني عمل القناصين المحترفين، الذين باتوا يرابطون بشكل متتابع في عدد من النقاط الحاكمة، شالين حركة جنود النظام داخل المطار، الذين باتوا لا يأمنون على أنفسهم الخروج من مهاجعهم، فضلاً عن الرباط والتحرك بحرية داخل مساحة المطار، كما كثف الشيشاني من استخدام القذائف بأنواعها نظامية \ محلية الصنع لاستهداف تحصينات النظام داخل المطار، والتي كانت تأتي بمعظمها من مخزون الفصائل العسكرية الأخرى، والأهم من كل ذلك هو بدء حفر الخنادق التي انطلقت من محيط المطار إلى داخله، مؤمنة تقدماً بطيئاً لكن شبه آمن للمقاتلين المحاصرين له، حتى وصلوا بعد عدة أسابيع إلى نقاط انطلاق متقدمة يمكنهم من خلالها التقدم للسيطرة على المطار كله.

مطلع شهر أغسطس \ آب عام 2013 جهز تنظيم داعش "مفخخة" يقودها انتحاري من المبايعين له، وكان من المفارقات الغريبة أن العربة التي تم حشوها بالمتفجرات تمت تقدمتها وتصفيحها من قبل لواء عاصفة الشمال، وهو اللواء نفسه الذي سيهاجمه تنظيم داعش في اعزاز بعدها بشهر تقريباً (سبتمبر \ أيلول) بغية اجتثاثه، لكن بالنسبة للعاصفة فقد كان تحرير المطار أكثر من كونه تحريراً لثكنة عسكرية تنطلق منها القذائف لقصف قرى وبلدات ريف حلب الشمالي، بل ثأراً لمؤسس اللواء القائد الشهيد "عمار داديخي"، والذي استشهد في ظروف غامضة في إحدى مشافي تركيا، من جراء إصابة تلقاها أثناء جولته على نقاط الرباط في محيط المطار بدايات العام نفسه.

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "ريف حلب الشمالي محرراً .. الجزء الثاني"  

وفي فجر يوم الإثنين 5\8\2013 انفجرت المفخخة في بعض تحصينات قوات النظام في المطار، متيحة المجال للقوات خارجه بدء عملية اقتحامه، وشهد اليوم كله اشتباكات عنيفة انتهت مساءً بإعلان المطار محرراً بالكامل، بعد قتل وأسر من كان فيه وفرار آخرين، فضلاً عن اغتنام عدد كبير من الآليات العسكرية والعتاد، وتصدر مشهد التحرير محلياً تنظيم داعش الذي لم يكن ليضيع فرصة كهذه في التأكيد على أهليته للإنجاز العسكري، حيث جالت أرتاله في الريف الشمالي وبعض أحياء مدينة حلب احتفالاً بتحرير المطار نفسه الذي عجز عنه الآخرون، كما كان للتنظيم ظهور إعلامي على عدد من شاشات التلفزة بشخص أحد المبايعين له وبصفته "قائد المعركة".

 

 

فيديو مرفق: بعنوان (تقرير قناة الجزيرة عن تحرير مطار منغ العسكري – آب 2013)
 

كانت معركة مطار منغ العسكري مفصلية بالنسبة لتنظيم داعش في الشمال السوري، ليس فقط لأهميتها إعلامياً بالنسبة لصورته "كصانع التحرير"، بل أيضاً لتمكنه فيها من التقارب مع (جيش المهاجرين والأنصار) الذي انضم إلى صفوفه عدد كبير من منسوبي فصائل الجيش الحر بعد معركة مطار منغ تأثراً بحنكة وانضباط قائده الشيشاني، الذي كان يحظى أيضاً بسمعة جيدة آنذاك بين تشكيلات الشمال السوري، حيث بقي الشيشاني يعمل بشكل مستقل تنظيمياً عن داعش لكن بالتنسيق معها حتى نهايات عام 2013، عندما أعلن مبايعته ومن معه للبغدادي في نوفمبر \ تشرين الثاني، قبل أن يصبح رأس حربتها في المعارك ضد فصائل الثوار في الشمال السوري مطلع العام 2014..

لكن تلك قصة أخرى..