مطابخ الإلهام

2021.07.22 | 07:40 دمشق

d3anxqwx0aiooja.jpg
+A
حجم الخط
-A

في حديث للدكتورة الناقدة شيرين أبو النجا عن بعض الطقوس التي ترافق الكتابة الإبداعيّة للنساء، وعوالم حضور المطبخ في الأدب التي تهدف إلى الحطّ من قدرات المرأة وتهميش رأيها وطردها من المجال العام؛ تؤكّد أنّ: "المطبخ بشكلٍ عام يُنظر إليه في ثقافتنا نظرةً دونيّة باعتباره مُنتميا للمجال الخاص بالمرأة، بالتالي تمّ إلغاء هذا الحيّز المكاني بما يتضمّنه من أنشطة ولم يظهر واختفى تماماً عن الكتابة الإبداعيّة في العالم العربي، رغم أنّه يدخل في نطاق الإبداع، ونجده أكثر في أدب أميركا اللاتينيّة وفرنسا".

عندما كانت إيزابيل الليندي تعيش منفاها الاختياري في فنزويلا بعيداً عن بطش الحكم العسكريّ في وطنها تشيلي، أقفلت في إحدى الليالي باب مطبخها لكي تكتب رسالةً روحيّةً لجدّها التسعينيّ المريض، ومع نهاية العام كانت قد كتبت على طاولة مطبخها المتواضعة خمسمئة صفحة! لم تكن تشبه الرسالة ألبتة، وإنّما كانت روايتها الأولى (بيت الأرواح).

من المطبخ أيضاً نضجت روايات الياباني (هاروكي مورا كامي) الأولى، وقبل بدايته كان قد حضر مباراة بيسبول صاخبة، وعندما انتهت خطرت في ذهنه فكرة كتابة رواية، فاشترى في طريق عودته إلى البيت رزماً من الورق، وشرع في كتابة روايته الأولى، يقول: "بعد ذلك اليوم، صرت أجلس كلّ ليلةٍ حينما أعود متأخّراً من العمل، إلى طاولة المطبخ وأستغرق في الكتابة"، لينهي روايته الأولى خلال ستّة أشهر، وفي العام التالي أيضاً من على الطاولة نفسها كتب روايته الثانية، وتوصّل إلى نتيجةٍ ظريفةٍ يقول عنها: "بشيءٍ من الحبّ المختلط بالحرج، أطلقتُ على هذين العملين (روايات طاولة المطبخ)".

في أحد النقاشات التي كانت تدور بيني وبين صديقةٍ كاتبة عن الكتابة الإبداعية للنساء حول العالم عرّجنا على مقالةٍ فرجينيا وولف الشّهيرة (غرفةٌ تخصّ المرء وحده) التي تؤكّد فيها فرجينيا على ضرورة امتلاك المرأة لغرفة خاصة بها ودخل ثابت لتستطيع الاستمرار بالكتابة، لأقترح على صديقتي استبدال الغرفة بالمطبخ في حالتها؛ ففي كلّ الأحاديث السابقة التي جمعتنا؛ كنتُ أجدها في زاويةٍ محدّدة من مطبخها، ممّا جعلني أنعتها ـ مازحةً ـ بالمرأة الشرقية؛ إذ تنفق وقتًا لا يُستهان به في المطبخ، وأنّها لا تختلف عن معظم النساء الشرقيّات التقليديات ذوات الإيمان الرّاسخ بأن المطبخ مملكتهنّ وطريقهنّ إلى قلوب رجالهنّ، كنت أكرّر لها تعليق إحدى عيّنات البحث في مشروعنا المشترك عن المرأة والغذاء؛ إذ أكّدت تلك العيّنة مراراً وتكراراً، أنّ المرأة كلّما كانت متقنةً للطبخ، كان مستقبل زواجها مبشّراً ومطمئناً، وقد توقّفت مشرفة بحثنا البريطانيّة عند تلك الملاحظة طويلاً، واستفسرت عنها وناقشتنا بها طويلًا لتستطيع إدراك العلاقة التي تربط بين قلب الرجل ومعدته، لا أعلم إن كانت قد أُعجبت بتلك الفكرة، أو استسخفتها، فلا أحد يستطيع أن يخمّن الطريقة التي يفكّر بها أشخاصٌ ينتمون إلى ثقافةٍ مغايرة.

عندما كانت إيزابيل الليندي تعيش منفاها الاختياري في فنزويلا بعيداً عن بطش الحكم العسكريّ في وطنها تشيلي، أقفلت في إحدى الليالي باب مطبخها لكي تكتب رسالةً روحيّةً لجدّها التسعينيّ المريض

فاجأتني صديقتي بقولها إنّ المطبخ هو المكان الوحيد المتاح لها للكتابة؛ بسبب ضيق المنزل ـ القبوـ الذي تسكنه والمكوّن من غرفتين صغيرتين، يشغلهما الأولاد، والمطبخ الذي أجدها فيه دوماً، وقد وضعت طاولةً صغيرةً في زاويةٍ منه تحضّر الطعام عليها، ثم تتناوله مع عائلتها، ثمّ تنظّفها وتتابع دروسها في اللغة ومحاضراتها الجامعيّة وأبحاثها وكتاباتها الخاصّة واجتماعات فريقنا البحثيّة، بعد ذلك انهمكنا في حديث عن كتابة المرأة الإبداعية، والظروف التعيسة التي كانت النساء تكتب بها في الماضي، والتي ما تزال مستمرّة حتّى يومنا هذا، وكانت حالة صديقتي مثالًا حيًّا عليها.

أخبرتني أنّها قد تجاوزت الأمر وتكيّفت معه، فلا جدوى من تهويله، ما دام الإيجار الذي تدفعه لصاحب البيت زهيداً، ومتوافقاً مع مواردها الضئيلة، فالصبر على تلك الظروف واجبٌ في حالتها تلك.

إلّا أنّ ذلك الصبر الذي كان معيناً لها سنةً بأكملها تبدّد وذهب أدراج الرياح كما أنبأتني لاحقًا، حين قرّر صاحب البيت رفع قيمة الإيجار، بدأت تبحث عن طريقةٍ لثنيه عن قراره ذاك؛ فكّرت في نبش مساوئ البيت وهي كثيرة، لعلّه يتراجع عن قراره؛ خصوصاً تلك الفئران التي كانت تبزغ في البيت والتي أجبرتها على خوضِ مواجهةٍ معها لم تستطع تفاديها؛ لتنجح في النهاية وتتخلّص منها واحداً بعد الآخر.

في الموعد المحدّد لدفع الإيجار لم تعطِ صاحب البيت الزيادة التي يترقّبها، وحين سألها عنها ملهوفاً غاضباً، نطق ابنها الذي لم يتجاوز العاشرة بكلّ عفويّة وبراءة:

ـ "لازم إنت اللي تدفعلنا، خلّصناك من الفئران اللي كانت ببيتك"!

لم تستطع تمالك نفسها حين نطق ابنها بتلك العبارة؛ فأفلتت منها ضحكة ظنّها صاحب البيت تصبّ في خانة السخرية منه، وأنّها مجرّد قصّة مختلقة من قبلهم، ليقنعوه بالعدول عن فكرة الزيادة.

ثمّ أضافت: "طبعًا سبب ضحكتي كان انبثاق المشهد في ذاكرتي حين لمح أولادي فأراً للمرّة الأولى يدبّ في جنبات البيت ويمرّ من بينهم مرور الصاعقة، ملأ صراخهم المنزل وقفزوا بعيداً إلى أماكن عالية، كانوا يفعلون ذلك حين يصادفون صرصوراً ضالاً، أو عنكبوتاً سقط من علٍ، كانت تلك الحشرات تخيفهم، لكن الفئران تحديداً شكّلت لهم عقدة بعد أوّل ظهورٍ لها في المطبخ، وجعلتهم يبتعدون عن المطبخ ما أمكنهم وهذا الأمر صبّ في صالحي، إذ وفّر لي منطقةً آمنةً للكتابة".

لم يخضع صاحب البيت لطلبهم إبقاء الإيجار كما كان، وشرع يعدّد لهم مناقب بيته البارد صيفاً، والدافئ شتاء ـ القسم الأوّل من مقولته صحيحٌ فقط كما أخبرتني ـ وأنّهم ـ حتّى بعد رفعه إيجار البيت ـ لن يجدوا بيتًا بإيجارٍ زهيد كبيته في المدينة كلّها.

لم تقنعها حججه التي دبّجها في مديح قبوه، ويبدو أنّ ذكرهم للحشرات والزواحف التي تظهر في قبوه، فتح أبواب الجحيم عليهم، واستدعى ظهور كائنات أخرى أكثر خطراً، كان ظهور عقربٍ صغيرٍ أمام باب البيت القشّة التي قصمت ظهر البعير وجعلها تحزم أمرها بالخروج من القبو، دون أي نقاشٍ أو جدال آخر مع صاحب البيت، فحتّى وإن ظهر ديناصور في البيت فذلك بالنسبة له لن يعدو كونه قصّة أخرى مختلقة من قِبلهم ليبخسوا بيته حقّه.

في الحقيقة كان هناك ميزة للبيت وللفئران التي كانت تبزغ فيه بين الفينة والأخرى، والتي احتاجت إلى شهرٍ كامل للتخلّص منها نهائيًا، طبعًا لم تذكرها لصاحب البيت، لأنّه لن يفهمها ولا حاجة لذلك من الأصل، وإنّما ذكرتها لي عندما استأنفنا محاوراتنا في بيتها الجديد، ومن غرفةٍ جميلةٍ خاصّة بها وحدها، هنّاتها بالغرفة الجديدة؛ قائلة: لقد حصلتِ على غرفةً خاصّةً بكِ، تستطيعين الآن أن تكتبي بشكلٍ أفضل.

إلّا أنّني فُوجئت بعدم قدرتها على كتابة حرفٍ واحدٍ منذ وطئت قدماها عتبة البيت الجديد، وتعوّض ذلك بالقراءة وأعمالٍ أخرى لا تحتاج تركيزاً من قِبلها، وأنّها تفتقد زاوية مطبخها القديم، وتلك الفئران الملهمة التي كانت تطلع في جنباته من حينٍ إلى آخر!

ثمّ شرعت تقصّ لي حكاية الفئران التي ألهمتها روايتها الأولى التي تمكّنت من إنجازها في تلك السنة التي قضتها في ذلك القبو؛ رواية بدأت خيوطها منذ أوّل فأرة ظهرت في مطبخها، كان ذلك بتوقيت العاشرة مساء، الوقت الذي ينصرف فيه الأولاد إلى النوم، ويغرق البيت في صمت عميق مطمئنٍ يحفّز الفئران على الخروج في جولةٍ ليليّة لا يعكّر صفوها البشر.

حكايتها تلك استدعت إلى ذاكرتي حادثة شبيهةً للكاتب (ماريو بوزو) الذي انتابته الحماسة بعد نجاح روايته العرّاب، فقرّر أن يُنشئ لنفسه مكتباً جميلاً خلف منزله؛ غرفة كبيرة ومضيئة ذات منضدتين كبيرتين وكلّ ما يحتاجه الكاتب، المشكلة أنّه لم يتمكّن من الكتابة هناك، وما لبث أن عاد إلى منضدة المطبخ وسط ضجيج أبنائه ليتمكّن من الكتابة أخيراً.

أبديتُ إعجاباً منقطع النظير بفكرة رواية صديقتي وظروف كتابتها، ولم أنسَ أن أشيدَ بشجاعتها حين استطاعت أن تواجه فئراناً أربع، ثمّ أردفتُ إعجابي بسؤالها: ماذا كانت ستكتب فرجينيا لو علمت أنّ هناك نسوة في بقعة ما من العالم يكتبن من زاوية مطبخ ضيّق لا يقطع الصمت والبرودة فيه سوى فئران جوّالة وقحة؟

أجابتني من فورها: ما يشفع لتلك الفئران الوقحة أنها ملهمة! وأنّ إلهامها لي لم يكن بأقلّ من إلهام فرجينيا وولف لكثيرٍ من النساء حول العالم.

 

 

كلمات مفتاحية