مصدر دعاية النظام ضد الثورة

2021.11.01 | 06:20 دمشق

n00060717-b.jpg
+A
حجم الخط
-A

لذكرى ميساء جوهر

مرة واحدة فقط سمح بشار الأسد لباحثة من منظمة هيومن رايتس ووتش بالتجول بحرية على الأراضي السورية ومقابلة الشهود من دون رقابة. عندما أوفدتها المؤسسة الحقوقية العالمية لإعداد تقرير عن معركة كانت المعارضة المسلحة قد أطلقتها في آب 2013 وعرفت باسمين؛ «عملية تحرير الساحل» عند الجيش السوري الحر ومرجعيته السياسية، و«حملة أحفاد عائشة أم المؤمنين» لدى الجهاديين الذين قادوها. وهي المعركة التي ستكون في خلفية فيلم «نجمة الصبح» الذي أنجزه المخرج الموالي جود سعيد وعُرض يوم الجمعة الفائت على هامش «معرض الكتاب السوري» في دمشق.

وفق ما جمعته المنظمة فإن 190 مدنياً قتلوا، بينهم نساء وأطفال ومسنّون، وبلغ عدد الرهائن والمفقودين 200 حين إعداد التقرير

في التقرير الذي صدر بعنوان «دمهم ما زال هنا» استطاعت هيومن رايتس ووتش رسم صورة دقيقة لما حصل منذ فجر أول أيام عيد الفطر، عندما هاجمت فصائل متعددة مواقع لجيش النظام كانت تحرس المنطقة وهزمتها، ودخلت أكثر من عشر قرى يسكنها علويون وسيطرت عليها. ثم بدأ الجيش هجوماً مضاداً، استمر قرابة أسبوعين، استعاد إثره السيطرة على المنطقة. وخلال هذه العملية، ولا سيما في يومها الأول، قامت الفصائل المعارضة بإعدام بعض السكان وإطلاق النار على مدنيين كانوا في منازلهم وقتل عائلات بكاملها أحياناً، أو الذكور البالغين واحتجاز النساء والأطفال. ووفق ما جمعته المنظمة فإن 190 مدنياً قتلوا، بينهم نساء وأطفال ومسنّون، وبلغ عدد الرهائن والمفقودين 200 حين إعداد التقرير في أيلول.

ونتيجة فسحة العمل، إذ ليس لدى النظام ما يخشاه هنا، تمكنت المنظمة من مقابلة بعض من فرّوا من المنطقة وأقرباء الضحايا والمحتجزين. واطّلعت على سجلات طبية للجثث. ومن جهة أخرى حللت 200 مقطع فيديو نشرها ناشطون ومقاتلون من المعارضة في أثناء الهجوم، ومئات الصور، وكتابات «الظفر» التي وقّعها رجال الفصائل على الجدران، ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصريحات وتقارير إعلامية، وبيانات تعريف المقاتلين الذين قتلوا في الهجوم والمجموعات التي ينتمون إليها. في عمل محترف متكامل استطاع تحديد الفصائل المشاركة؛ من «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وحتى «المجلس العسكري الأعلى للجيش السوري الحر» بقيادة رئيس الأركان سليم إدريس. مروراً بنحو عشرين فصيلاً؛ من أبرزهم «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«جيش المهاجرين والأنصار» و«صقور العز». كما حددت الداعمين الذين كانوا قد أطلقوا حملات تبرعات للتمويل على معرّفاتهم المعلنة في تويتر، ومنهم شيوخ خليجيون اشتهروا سورياً. وكانت للمعركة ملامح طائفية واضحة، منها إعدام رجل الدين العلوي بدر غزال.

أما فيلم «نجمة الصبح»، الذي أنتجته «المؤسسة العامة للسينما» الرسمية، فيُعفي نفسه من الانضباط الملحوظ في التقرير. إذ يبدأ بعبارة «إن حكاية هذا الفيلم متخيلة تماماً...» المراوغة، رغم إشارة مخرجه إلى معركة الساحل عام 2013 في مقابلاته أكثر من مرة. لكنه، بهذا، يبيح لسرده أن يركّز على قصة حب فاشلة بين شاب، سيتزعم المتمردين، وصبية من قرية مجاورة تختلف عن قريته في أمر يُجهّله الفيلم، ولكنهم يتقاتلون من 1400 سنة! وعلى عداء هذا القائد المجنون لشقيقه الخيّر المندمج مع جواره والمنحاز إليهم. وعلى عادة أفلام البيئة الساحلية السورية في صناعة ما تسميه الكوميديا السوداء، يلقي الفيلم بعدد وافر من النكات السمجة في مواقف لا تحتملها إطلاقاً، كأخبار الفقد أو عند القلق على المخطوفات، مما أفقده الإقناع بردّات فعل منطقية في مثل هذه الحالات. وبين شروط الرقابة، التي تمنع الحديث عن الخلفية الطائفية أو الإشارة إلى أسباب معقولة للثورة، وبين رغبة المخرج في «اللعب» على أوتار البيئة واللهجة والمفارقة والعاطفية والإنسانية؛ يقع الفيلم في السخف مراراً، إن لم نقل إنه يهين المصيبة وأهلها من دون أن يقصد.

النسخة الثالثة من الرواية هي الأكثر تأثيراً، رغم افتقارها إلى احتراف الأولى وبصرية الثانية. وهي مذكرات نشرها أحد أبناء المنطقة وذوي ضحاياها، طلال سليم، متسلسلة على صفحته في فيسبوك، وهو يخطط لطباعتها في كتاب.

يكرر سليم الأفكار التي شاعت بين أهالي المنطقة عن «الخيانة» التي أدت إلى المجزرة، ويتساءل معهم «من باعنا؟»

خلال معركة الساحل خسر سليم زوجته الشابة، وابنته ذات الأربعة عشر عاماً، وأباه، وثلاثة من أشقائه، وبعض الأخوال وأبناء الأعمام. كما اختُطفت طفلتاه وابنه الوحيد الذي كان في عامه الثالث. ولم يعودوا إلا بعد تبادل على مرحلتين متباعدتين كانت أقربهما بعد عام. وفي يومياته عن تلك المرحلة يصف قلق الأهالي، ودخولهم مع قوات جيش النظام ليعاينوا مباشرة جثثاً قُتلت بالرصاص على أسرّتها، ومذبوحين على الطرقات، وآخرين في مقابر جماعية كان شاهداً على فتحها وتعرّف إلى بعض ضحاياها. كما يحكي عن الحضور الباهت للموضوع في الإعلام الرسمي، مما سيخط أول شرخ بين العلويين والنظام، أُسّس على خلاف مذهبي داخلي. وينقل إحجام المسؤولين عن التبادل بدعوى أن «الدولة» لا تفاوض «العصابات المسلحة»، ثم تلكؤهم فيه للضغط على «الإرهابيين» ريثما يضيقون بتكاليف إطعام المخطوفين وحراستهم ويرغبون في الخلاص منهم مما سيتيح الحصول على صفقة جيدة! كما يكرر سليم الأفكار التي شاعت بين أهالي المنطقة عن «الخيانة» التي أدت إلى المجزرة، ويتساءل معهم «من باعنا؟». وينقل مشاهداته المباشرة عن قوات «الدفاع الوطني» التي أخّرت دخول السكان ريثما تقوم بنهب بيوتهم المنكوبة. ونتيجة هذه الحزمة من العوامل لاقت ذكرياته هذه رواجاً كبيراً وتفاعلاً واسعاً عندما كتبها أول مرة وحين أعاد نشرها مؤخراً. أما ابنته جوى، التي قضت سنة في الأسر وهي في الثامنة، فقد أصبحت الآن طالبة يافعة في الإعدادية. وحين أعلنت مؤسسة «وثيقة وطن»، التي تؤرشف التاريخ من وجهة نظر النظام، عن مسابقة لأفضل قصة واقعية قصيرة عن «الحرب»؛ كتبت تجربتها المريعة ففازت بالمرتبة الأولى لعام 2020.

هكذا تمنح بعض أفدح انتهاكات المعارضة فرصة ذهبية للنظام لاستثمار ما جرى فعلاً من دون حاجة إلى اختلاق أو تزييف. إذ لطالما قدّمت له أمثال هذه الحوادث مادة لا يمل، هو وحلفاؤه الروس والإيرانيون، من طرحها في المحافل السياسية وعلى المنصات الإعلامية. وإذا كنا نريد أن نجرّده من أسلحته المعنوية فعلينا أن نحاصر هذه النزعات من صفوفنا أولاً، أما فبركاته الركيكة فأمرها هيّن.