مشهدٌ سوريٌّ من القرن العشرين.. اتفاق العسكر مع التجار برعاية رجال الدين

2022.11.19 | 07:09 دمشق

جامعة دمشق
+A
حجم الخط
-A

أن تكون أستاذاً جامعياً ومفكراً، قضيتَ معظم عمرك في البحث والدراسة والفكر، ثم تجد نفسك بين ليلة وضحاها منقولاً إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كموظف إداري، يعني، بمعنى من المعاني: سنلغي شهاداتك ومنبرك ونحوِّلُكَ إلى موظف إداري فحسب. هذا لا يحدث بسهولة ويسر سوى في سوريا الأسد، هذه هي حالة المفكر السوري نعيم اليافي، والزمان هو مطلع التسعينات.

كنتُ قد ناقشتُ معه مخطط الماجستير الذي سيكون بإشرافه، وكان قد زوَّدني بقائمة كتبٍ عليَّ أن أقرأها، في الفلسفة أولاً وفي النقد ثانياً، لأنه قال لي يومها: لا يمكنك أن تكون ناقداً أدبياً، أو أستاذاً جامعياً ناجحاً دون أن تكون لديك أرضية فلسفية ومعرفة بتحولات الفكر البشري. وتابع: كل ما لا تجده من تلك الكتب أو ليس لك القدرة على شرائه، يمكنني أن أعيرك إياه من مكتبتي الخاصة وأحضره في الأسابيع القادمة معي من حلب، وكانت هذه عادته كل أسبوع مع طلابه.

في لقاء سريع، جمعنا نحن الطلاب الثلاثة المفتونين بأخلاقه ومعرفته ومواقفه، وقال لنا: لا أريد أن أظلمكم في وضع قانوني جديد وضعوني فيه، ابحثوا عن مشرفين غيري!

وقبل أن نحدثه عن صدمتنا، أو خيبة أملنا، أو فجيعتنا، تابع: لا تُحْبَطوا إنْ قيل لكم: لا تتواصلوا مع نعيم اليافي بعد اليوم! فقد صدر قرار نقلي إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كموظف بعد تحويلي إلى مجلس التأديب. وكما تعلمون مجلس التأديب هو العصا السحرية لدى القيادة السياسية لمعاقبة الأستاذ الجامعي، لكن بصبغة إدارية قضائية.

تمَّ الأمر عبر قرار للقيادة القطرية لحزب البعث، بناء على مقترح عاجل من فرع الحزب باللاذقية وموافقة القصر الجمهوري وإدارة المخابرات العامة. وما على وزير التعليم العالي إلا البحث عن المخرج القانوني، وهو مجلس التأديب من خلال رئيس الجامعة عبر حاشية تقول: إن الأستاذ الدكتور نعيم اليافي قد خالف الأهداف العامة للبحث العلمي والتعليم الجامعي.

قبل هذا الحدث سبق أن تشابكَ د. نعيم اليافي مع القوى الدينية والمجتمعية والجامعية والمعارضاتية عبر عدد من الخيوط، خاصة حين استضاف في جامعة دمشق بلقاءات مفتوحة مع طلابه كلاً من سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وسواهم أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي. وكان هو أول من لفت نظرنا إلى محمد شحرور بعد صدور كتابه الأول حين دعاه للحوار لكنه اعتذر. وحضر بدلاً منه د. جعفر دك الباب الذي كان متحمساً لـ شحرور ومنهجه في القراءة، حيث يتقاطع معه عبر أكثر من كتاب أصدره. قيمةُ تلك الدعوات الحوارية كانت كبيرة ومفصلية لأنها جاءت بعد نحو عقد من الزمان أغلق فيه النظام السوري أي مدخل للثقافة المتخلفة، بعد أن استغل صراعه مع الإخوان للتضييق على أي حالة فكرية أو معرفية سورية، وترافقت تلك الحوارات مع أسبوع قسم الفلسفة السنوي في جامعة دمشق، الذي كان يتبناه مسؤولون في الدولة.

تشابكَ نعيم اليافي مع قوى فكرية وسياسية سورية مختلفة الأهداف والجذور والأدوار، فقد اشتبك مع اليسار السوري الذي كان يريد أن يحتكر المعارضة ذات الطابع اللاديني، وأن يؤطرها بإطاره. وكان اليافي يقول لطلابه: أتفهم أن كل معارض يجب أن يكون لديه منصة أو فريق أو حزب أو مجموعة، لكنني خارج تلك الاصطفافات والمنصات المعارضة وإنْ كنت أتفق معها في نقاط عدة لكنني كذلك أختلف معها كثيراً، ويتابع: محاضراتي وجامعتي هي حزبي الذي أنتمي إليه ومنصتي، لأنه يتيح لي حرية الحركة والخروج عن الأطر التقليدية للمعارضة وكذلك التفكير الحر، وهذا هو دور الجامعة منذ أن وُجِدَتْ حيث تكون مختبراً للتفكير العلمي وبوابة للنقد والمعرفة والنقد.

وتشابكَ كذلك مع التفسير التقليدي للدين الإسلامي، وكان يفرق بين العقيدة والعبادات من جهة بصفتها ثوابت ويركز على فلسفة الإسلام التي تقوم على عاملين رئيسيين، كانا أحد أسباب نجاحه وقبول الناس له وهما: الحرية والعدالة. أما ما يتعلق بفقه الحياة اليومية فكان يترك المجال مفتوحاً ويرى أنه يجب أن يتغير بتغير الزمان، من أجل ذلك فقد كتب أكثر من كتاب وبحث حول وضع المرأة، إذ كان يرى أنه لا يمكن لمجتمع أن يتطور وتكون نصف قواه معطلة، أو مقيدة بحجج غير مقنعة، من هنا فقد كانت وجهات نظره بالحجاب موضع إدانة ومشاكسة ونقاش، إذ كان يرى بعدم فرضيته اعتماداً على تفسير لغوي للنص القرآني.

وتشابك مع الجانب الوظيفي في الدولة عبر إدانة الفساد وفضحه لما يمر معه، وإدانته لها وتسمية الأشخاص بالاسم.

 ونتيجة مواقفه تلك وجوانبه الفكرية فقد سبق في بادية مسيرته الجامعية أن نقل من جامعة حلب إلى وزارة التربية عام 1973 ليعود بعدها إلى جامعة دمشق، ثم يطرد مرة أخرى مطلع التسعينات من جامعة دمشق إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.

كان من المعتاد إنْ كنتَ معارضاً سورياً، إما أن تكون إخوانياً مغضوباً عليك إلى الأبد، أو يسارياً سوريأً ملاحقاً، أو ناصرياً قومياً، أو كردياً محروماً. ليس متاحاً لك أن تكون حر التفكير أو خارج الأطر، هي تقوى بك وأنت تقوى بها، ولم يكن الزمان زمان الإنترنت، الفضاء المتاح أمامك هو الفضاء الواقعي، والفضاء الواقعي يفترض بك أن يكون لديك جمهور ومنصة وجماعة تدافع عنك.

ظنَّ نعيم اليافي أنه يستطيع تجاوز الشرط الاجتماعي السوري وظرف النظام السياسي بذكائه، وطروحاته المغايرة، وقد كان النظام يغض النظر عن نقد اجتماعي أو ديني لا يمس ثوابت الدولة. فحسِبَ أن هذه المساحة متاحة له، فكان مصيره خارج الجامعة مرتين.

تقول الواقعة أواخر عام 1993 في مناقشة ماجستير في جامعة تشرين، قال اليافي واصفاً حالة المجتمع السوري، رداً على ما طرح: إن البنية الاجتماعية السورية في الستينات والسبعينات تشكلت عبر مجيء مجموعة من العسكر من الأرياف السورية، حاملين معهم مسدساتهم وشعاراتهم. سمع بهم تجار المدن الرئيسية فهرعوا نحوهم، والتقوا في منتصف الطريق، واتفقوا على خطة مشتركة تتمثل في أن يقوم التجار بالتخلي عن نصف أموالهم مقابل أن يسخِّر العسكر أسلحتهم لحماية أموال التجار، وأن يبقوا على شعاراتهم بكامل بهائها، وبذلك الاتفاق فإن النظام السوري هو حصيلة صفقة محلية قبل كل شيء تمت بين المال والعسكر برعاية رجال الدين.

جن جنون المخابرات وفرع الحزب باللاذقية، لكنهما في الوقت نفسه يريدان أن يحافظا على صورتهم، بخاصة في ظل مرحلة جديدة بدأ حافظ الأسد وقيادته القطرية بالترويج لها عبر قانون الاستثمار رقم 10 وكذلك مفاوضات أوسلو. وليس من المستحسن إعطاء صورة عن النظام أنه اعتقل معارضاً علمانياً وزجه في السجن.

 الأمر بسيط، فلنقصص أجنحته، ونخرجه من الجامعة، وبالتأكيد رفض نعيم اليافي أن يلتحق بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كموظف إداري، ووضع بدلاً منه في الجامعة فيصل سماق (الحاصل على دكتوراه في النقد الأدبي باللغة الروسية التي لا يعرف منها شيئاً)، وكان قد أعيد من ألمانيا نتيجة اكتشاف أمر علاقته بـ كارلوس وملف الإرهاب الدولي والتمويل السوري الإيراني.

عدد كبير من طلابه والمعجبين بفكر نعيم اليافي في عهد بشار الأسد واعدوه أن يعود إلى منبره الأثير، إلى الجامعة، بل استقبله بشار الأسد شخصياً، وقدم له اليافي خطة رؤية إصلاحية، لكنه أهمله، ولم يعده إلى الجامعة، حيث ترافقت خيبة أمله تلك بالعودة إلى منبره المفضل، بإصابته بالسكري.

زرته مرات عدة في منزله بحلب، وأجريت معه أكثر من حوار، وتابعت أيامه الأخيرة برفقة د.جمال طحان وزوجته السيدة سهام مرعشلي التي رافقته دائماً، ونفذت وصيته بالتبرع بمكتبته، وأقامت جائزة عن تجربته بالتعاون مع طلابه ومحبيه، لكن المخابرات تدخلت مرة أخرى فأوقفت الجائزة، إذ لا يراد ترسيخ شخصية ثقافية أو معرفية في سوريا سوى عائلة الأسد أو من يرضون عنه.

رحل نعيم اليافي عام 2003 عن 68 عاماً متحسراً على مآل بلده، وعلى مآله هو كذلك، ليكون شاهداً على مرحلة من تاريخ سوريا في القرن العشرين، حيث طُرِدَ من جامعته مرتين. ولم يشفع له حصوله على الدكتوراه بمرتبة الشرف من جامعة القاهرة أو حضوره الاستثنائي في حركة النقد والفكر العربي الحديث عبر أكثر من خمسة وعشرين كتاباً وعشرات الأبحاث والدراسات، لأن كل هذه السيرة العلمية أو الفكرية لا تعني الأنظمة الشمولية الاستبدادية المخابراتية بشيء، ما يهمها هو الولاء والاستزلام والطاعة العمياء.