مشفى بعشرة أيام ومشفى على الورق

2020.02.11 | 18:11 دمشق

6aoab.png
+A
حجم الخط
-A

حملت أخبار انتشار وباء كورونا في الصين تفصيلاً إيجابياً يُضاف إلى عديد من التفاصيل السلبية. فقد استطاعت السلطات المحلية أن تبني مشفى يتسع لألف سرير وإدخاله في الخدمة خلال عشرة أيام. سيقول قائل بأنه مشفى من وحدات مسبقة الصنع، إلا أن هذا لا ينفي عن هذا الإنجاز عظمته وترجمته لإمكانيات هائلة في التخطيط واتخاذ القرارات اللازمة لوضعه موضع التنفيذ وأخيراً، القيام بإشادته وتجهيزه فعلياً. وبمعزل عن الصبغة التسلطية للنظام الصيني والذي يمكن له أن يُسخّر أعداداً هائلة من العمال ويحشد الإمكانيات دون أي حساب لإنجاز مثل هذا العمل الأسطوري، إلا أن وضع مشفى لمعالجة المصابين في سرعة قياسية سيبقى في السجل الإيجابي للسلطات الصينية رمزياً وللشعب الصيني فعلياً على مدى التاريخ.

أثناء متابعة هذا الخبر الذي أثار الدهشة، راودني حدَثٌ سوريٌ من الذاكرة الشخصية. ففي سنوات العسل بين جاك شيراك وبشار الأسد، وأثناء ضخ الفرنسيين لمساعدات متنوعة المشارب من قضائية إلى إدارية إلى صحية، زار وفد من وزارة الصحة الفرنسية مدينة حلب لتفقد الأعمال في مشفى للأمراض السرطانية ساهمت فرنسا جزئياً في تمويل إنجازه كما كلياً في تمويل تجهيزه. وكانت زيارة الوفد غير المفاجئة تنحصر في استلام المبنى لمعرفة أمكنة تموضع أجهزة المعالجة مرتفعة القيمة والتي يبدو أنها كانت قد بدأت بالوصول.

في إطار عملي البحثي لم يكن الجانب الصحي مهماً إلا أن رئيس الوفد طلب مني، كمدير لمؤسسة فرنسية في المدينة لها علاقة علمية مع مؤسساتها المحلية، أن أرافقهم في زيارتهم لمدير الصحة للوقوف عند المراحل الأخيرة للإنجاز الهام جدا، ليس لمواطني حلب وأريافها فحسب، بل لمواطني الشمال السوري كافة، والذين كان المصابون منهم بأمراض سرطانية يحتاجون للذهاب إلى العاصمة دمشق وما يعنيه هذا من زيادة في الأعباء المالية كما في تأخير العلاج. وقد شعرت بالفخر لوهلة بأنني أشارك في المراحل "الختامية" لهذا المشروع الهام.

قام مدير الصحة بحسن وفادة الوفد، وكاد أن يفرش السجاد الأحمر على درج المديرية القذر، وبدأت أنواع الحلويات والمشروبات الساخنة والباردة في غزو مكتبه المليء بصور الأسرة الحاكمة في أوضاع مختلفة. وقد أختار انتباهي، كباحث يحب الكتب أداته الأساسية، أن يلتفت إلى الكتب خلف طاولته، فاقتربت منها لأرى ما هي قراءات السيد المدير إلى جانب المواضيع الطبية، ففوجئت بفقدان العناوين الطبية تقريباً وكثافة العناوين الخشبية للكتب التي تباع بشكل إجباري للمحلات التجارية والتي تكون عادة مطبوعة على حساب الكاتب المقرّب من الفروع الأمنية أو قيادة الحزب، والتي تحمل عناوين دائمة التشابه وعديمة الحمولة ولكنها تتغنى دائماً بحكمة، أو فلسفة، أو وطنية أو إيمان القائد المُفدّى.

وقبل البدء في الحوار الذي كنت أقوم بترجمته، توجه لي المدير بابتسامة لزجة منبهاً شخصي الكريم إلى ضرورة أن أكون "وطنياً" وأن أسعى من خلال دوري على "الحفاظ على سمعة الوطن". وقد أثارت هذه المقدمة استغرابي الشديد الواضح كما استهجاني العميق المموّه. وسرعان ما اكتشفت الجواب على استغرابي وزاد بالتالي استهجاني. فبعد المقدمات البروتوكولية، أسرع رئيس الوفد للتعبير عن ضيق الوقت وعن ضرورة الخروج لمعاينة مبنى المشفى كما تم الاتفاق عليه على ما يبدو بين الطرفين كتابياً. حينذاك، تلعثم المدير وتوجه بالكلام لي مذكراً بتنبهه الافتتاحي، مُشيراً إلى أنه سيُريهم المخطط قبل الزيارة مستدعياً المهندسة المسؤولة عبر الهاتف الأحمر. وقد امتعض الوفد من هذه الخطوة باعتبار أن الوقت من ذهب. إلا أنه سرعان ما توجه لي بالقول بأن المشفى غير جاهز وبأنني يجب أن أجد الحجة المقنعة لعدم زيارته، بما أنني وطني. فقمت بترجمة ما قاله حرفياً منوّهاً إلى أن المدير يشعر بالحرج وبأن المشفى لم ينته بناؤه بعد. استشاط رئيس الوفد غضباً مشيراً إلى أن الأجهزة مكدسة في العراء وبأن قيمتها تبلغ الملايين وبأنه لا يفهم أسباب هذا التأخير على الرغم من أنهم قد أبلغوا كتابياً بأن المبنى قد أُنجز.

خلال انتشار مشاعر الغضب بين أعضاء الوفد، والاحباط لدي، والحرج لدى المدير، وصلت "المهندسة" غير ناسية المخطط ولا العلكة كبيرة الحجم التي كانت تلوكها في فمها. وبدأت في شرح تموضع المكاتب كما صالات العلاج كما غرف المرضى. وكان الوفد قد بدأ في التململ والتشاور حول أفضل الحلول للخروج مما اعتبروه فخاً، وكان المدير يتوجه لي بكلام يحمل كثيراً من التهديد لأنني لم أكن "وطنياً" كما يجب ولم أكذب على الوفد. وفجأة صرخ رئيس الوفد طالباً المخطط أمامه، ليجد بأن أوسع الغرف هي غرفة المدير ومدير مكتب المدير، وأن أصغر الغرف هي غرف العلاج والمبيت. كما انتبه إلى أن المخطط قد تناسى إضافة وحدة معالجة لما يخرج من مياه ملوّثة ناجمة عن استخدام المواد الكيماوية الخطيرة. فأضافتها المهندسة بقلم الرصاص وهي تنظر إلى مديرها باستغراب القائل "كم هم متطلبون هؤلاء الفرنجة".

انتهى اللقاء بقرار من رئيس الوفد بإيقاف توريد الأجهزة ريثما تتوضح الصورة، وبخروجنا شبه مطرودين من مكتب المدير الذي توعدني بالعقاب، أما المهندسة، فقد تابعت التلذّذ بعلكتها غير عابئة. وفي طريق العودة، عرّجت بالوفد على البقعة الجغرافية التي كان من المفترض أن يقوم عليها المبنى منذ سنوات، فوجدنا أرضاً خلاء.

 
 
كلمات مفتاحية