مشاهدات من الداخل السوري

2021.09.15 | 06:34 دمشق

1db4ec0c-3659-4493-9859-b7c528552164.jpg
+A
حجم الخط
-A

حكى لي صديق قادم من سوريا، لم أره منذ سنوات طويلة جدا، عن سوريا جديدة لا أعرف أي تفصيل فيها، سواء دمشق أو حلب أو حمص أو الساحل السوري، وهي الأماكن التي يمكن له التنقل بينها بشكل شبه عادي، حكى لي عن الوجود (الاحتلال) الروسي وحواجزه العسكرية، عن دمشق التي تتحول شيئا فشيئا إلى محافظة من محافظات إيران، عن حلب التي أصبحت حلبين، عن حمص المدمرة، حكى لي عن الذل الذي يعيشه المواطن السوري، عن فتك النظام حتى بمؤيديه، عن الرعب من النظام الذي تحوله النفس البشرية إلى طاعة ثم ولاء كامل ثم حب، وقال لي جميعهم يعرفون أنه السبب، لكن عقودا من الخوف اختتمت بحرب أهلية وبشحن غرائزي يومي أظهرت لديهم متلازمة استوكهولم، لكنهم ليسوا أكثر من ضحايا من مجموع الضحايا السوريين جميعا، حكى لي عن تحول المنطوق المجتمعي إلى ما يشبه لبنان بعد الحرب الأهلية، حيث التصنيف الطائفي والفرز المذهبي بات حديثا عاديا بين من تبقى في سوريا، ولم يعد من الأحاديث التي تجري خلف الجدران المصمتة كما كان قبل الثورة، أخبرني أن هذا بات شيئا أقل من العادي في اليوميات السورية، قال لي أيضا حين حدثته عن ندمي للخروج من سوريا، لا تندمي، لاشيء هناك يستحق الندم عليه، سوى جذور واهية للثورة يمكن أن تريها هنا وهناك، لكنهم يحاولون القضاء عليها بكل السبل الممكنة.

بات أطفال البلدة يسمون أطفال النازحين (إرهابيين) وأطفال النازحين يسمون أطفال البلدة (مجوس وقتلة)

بيد أن أسوأ ما حكى لي عنه هو عن مجموعة من النازحين من مدينة حلب، أيام النزوح الكبير، قصدو الساحل السوري، وعاشوا في مخيم قريب جدا لإحدى البلدات هناك، وطبعا لم يكونوا مرحبا بهم كثيرا من قبل أهل البلدة ـ فهم بنظر أهل البلدة عائلات (الإرهابيين) الذي يقتلون أبناءهم من عناصر الجيش والأمن والدفاع الوطني، وهو ما جعل من التواصل الاجتماعي الذي يمكن أن يخفف من وطأة التعصب للرأي مستحيلا، الأمر الذي انعكس على أطفال الطرفين في المدارس، حيث بات أطفال البلدة يسمون أطفال النازحين (إرهابيين) وأطفال النازحين يسمون أطفال البلدة (مجوس وقتلة)، التلاسن تحول لاحقا إلى حرب حقيقية بين الأطفال استخدمت فيها السكاكين، حاول بعض عقلاء المحافظة (متعددو الطوائف) التدخل لحل الإشكال وتهدئة النفوس، بيد أن الأمر لم ينجح، فما كان من مديرية التربية سوى أن فصلت بين الطرفين عبر جعل الدوام الصباحي لتلاميذ البلدة، والدوام المسائي للنازحين! في حل يبدو أنه هو الطريقة الوحيدة التي يعرفها النظام السوري ومؤسساته لإنجاز سوريا المفيدة التي يحكي إعلامه عنها دائما.

على أن وجود النازحين في قلب المدن السورية الآمنة، كمدن الساحل السوري، يبدو مختلفا تماما، فمن سكن في المدن لا في المخيمات، هم أصحاب رؤوس الأموال، الذين تمكنوا من شراء عقارات سكنية وتجارية، واختلطت حياتهم مع حياة أهل المدن التي قصدوها، تبدو العلاقات الاقتصادية هنا عابرة للطوائف، وهذا ليس بمستغرب أبدا، إذ لطالما كان الاقتصاد هو المحرك الأول سواء للحروب أو للحلول السياسية، إذ تحتاج دورة اقتصاد الأفراد إلى حالة من الأمان المجتمعي، خصوصا في مزاولة التجارة التي يتقنها السوريون، هذا الأمان المجتمعي تلزمه علاقات مترفعة عن الغرائز الدينية والمذهبية، أو يلزمه نوع من أنواع التقية يمارسها البشر في حياتهم حفاظا على مصالحهم الاقتصادية المتبادلة، لكن حتى المصالح الاقتصادية تلك يبدو أنها لم تستطع أن تتجنب حالة الانقسام المهول في المجتمع السوري، فقبل مدة أيضا صورت لي صديقة في سوريا لافتتين منصوبتين في إحدى الشواطئ المشهورة والمبالغة في ارتفاع رسوم دخولها أو اقتناء مكان فيها في الساحل السوري مكتوب عليهما: (للمحجبات فقط) و(للبكيني فقط)، أي أن مجلس إدارة الشاطئ خصص مكان سباحة للمحجبات ومكانا آخر للاتي يرتدين لباس السباحة المؤلف من قطعتين، وطبعا يمنع الاختلاط بشكل نهائي بين الشاطئين تحت طائلة الطرد ودفع غرامة، سألت صديقتي: ماذا بخصوص النساء اللواتي يرتدين لباس بحر مؤلف من قطعة واحدة؟ ألا يوجد مكان لهن في هذا الازدحام المليء بالتطرف والتطرف المضاد؟ قالت لي: هذا ما أصبحت عليه سوريا حاليا، تطرف في كل شيء، لا صوت يسمع للمعتدلين، ولا حياة تلحظ لهم، يبدو أنهم اختفوا تماما، لا أحد من الطرفين المتطرفين المتضادين يريدهم في هذه السوريا البائسة.

بقاء النظام مع كل ما ارتكبه في حق سوريا والسوريين، هو مساهمة في زيادة حدة الانقسام الخفي والمعلن، مهما روج إعلامه والإعلام الموالي له غير ذلك

لطالما لفتت نظري في لبنان حالة الانقسام الطائفي التي وجدت علنا في المجتمع بعد الطائف، الحديث الطبيعي عنها أو التعريف بالشخص مع ذكر لطائفته، مقاهي المثقفين في شارع الحمرا الشهير، حيث يتوزع روادها حسب طوائفهم، وإذا ما التقى مثقف من طائفة مغايرة بين مجموعة مثقفين من الطائفة ذاتها فهو زائر عابر للمقهى، أو هو ينتمي إلى الحزب القومي السوري (المتعالي على الطوائف رغم تأييده المطلق للاستبداد وللنظام السوري)، والاستثناءات موجودة في كل الحالات طبعا، وكنت دائما ما أرى في هذا الفرز الطائفي نواة حرب جديدة جاهزة للنمو، وما يمنع تجدد الحرب حتى الآن هو تحالف المصالح الاقتصادية لزعماء الطوائف اللبنانية، غير أن ما يعيشه لبنان اليوم هو حرب من نوع آخر، يدفع ثمنها أبناء الطوائف جميعا، الذين لطالما كانوا وقودا لحروب الزعماء، هل سيختلف الوضع في سوريا بناء على المعطيات الموجودة، وعلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟ لا أظن ذلك، فبقاء النظام مع كل ما ارتكبه في حق سوريا والسوريين، هو مساهمة في زيادة حدة الانقسام الخفي والمعلن، مهما روج إعلامه والإعلام الموالي له غير ذلك، فالخراب الذي نشره وعممه لن يتوقف، فهو قد فقد سيطرته على الوضع الأمني المجتمعي، بعد أن أصبح السلاح ظاهرة عامة ومنتشرة، وإن حدث وانسحبت الدول الكبرى المسيطرة على سوريا حاليا فسينكشف وضع النظام على حقيقيته، وسيرى الجميع كيف أصبح (الملك عاريا).