مشاهد من حياة مواطن سوري من عصر ما قبل الإنترنت

2022.11.26 | 07:05 دمشق

وكالة سانا
+A
حجم الخط
-A

يحدثني صديقي: كانت خمس وعشرون ليرة قادرة على أن تغيّر مستقبلي، تلك الـ 25 ليرة هي أجرة الباص من القرية التي ولدت فيها إلى دمشق وبالعكس نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

يتابع: كانت خطة والدي محكمة؛ فالحاجة المادية وعدم وجود دخل مستقل سيجعلانني أقبل بشروط البقاء هناك بجانبه، هو الذي شجعني على أن أرفع رأسه بدراستي، غير أن خيبة أمله هذه ليست الوحيدة أو الأولى بي. بل سبقها دخولي الفرع الأدبي، وبالتالي ضاعت أحلامه في أن أصبح طبيباً أو مهندساً، بقي شيء في ذهنه وهو أن أغدو محامياً أو قاضياً أو ضابطاً في الشرطة.

بقي حقل الرغبة الأولى في بطاقة المفاضلة الجامعية فارغاً، ولم يكن هذا هو السبب الوحيد بل كذلك دمشق، كانت دمشق حلماً عند ذلك الشاب الفراتي في محافظة اعتادت أن يكون فضاؤها حلب لعوامل تاريخية وجغرافية ومواصلاتية.

كانت علاقتي بالإعلام قد تمثلت فيما هو متوفر من إذاعة وتلفزيون وصحف محلية ومجلات أطفال أو شباب. ومن كانت لديه بذور موهبة أدبية كانت قراءة الصحف تعد جزءاً من وجوده، عبر صفحات الأدباء الشباب في عهد كانت الصحافة ليست سلطة رابعة بل سلطة أولى في الاعتراف في المواهب الأدبية.

سجَّل ذلك الصديق في علم الاجتماع ليكون الأقرب إلى حقل الإعلام، خاصة أنه لم تترسخ في سوريا بعد فكرة أن يكون العاملون في الإعلام من الضروري أن يكونوا خريجي إعلام، لأن قسم الصحافة كما كان يسمى في سوريا هو وليد أواخر الثمانينيات.

كانت ثقافة كثيرين في سوريا تقتصر على مكتبة المدرسة وما يصل من صحف تصل يومياً بعد الساعة الرابعة عصراً عبر التكسي القادمة من مدينة حلب، وتصل أحياناً صحف لبنانية وعربية كذلك، إنْ كان هناك فائض في القسم المخصص للمدن الكبرى.

وما نوفره من "خرجياتنا" نشتري به الصحف، وبعض المجلات العربية الرخيصة من مثل مجلة كانت تصدر عن ألمانيا الشرقية تتصدرها دائماً صورة إيريش هونيكر، وكذلك مجلة أسامة وأحياناً مجلة طبيبك التي نشتريها لسببين رئيسيين: موضوعاتها الغريبة والثقافة الجنسية، في فترة لا نعرف فيها شيئاً عن الجنس الآخر.

أما العناوين البراقة وصور الجميلات لكل من مجلات: الشبكة والموعد ونادين.. وكذلك التحقيقات التي يكتبها صحافيون لبنانيون محترفون فيبقى اقتناؤها حسرة في قلوبنا نحن المراهقين. إذ يشتري تلك المجلات رجال وشباب لديهم الدخل الكافي. كنا نتمنى أن نتمكن من شرائها؛ لكن ما "بالجيب" حيلة!.

كانت الصحافة المكتوبة والإذاعة ليست صحافة بالمفهوم الحالي للصحافة، بل طريق معرفة واكتشاف وتعرف إلى العالم الجديد، ونحن في عالم ضيق فُرِضَ علينا ألا نغادره. وكانت الصحف اليومية أحياناً مدخل فرصة عمل عبر إعلان عن توظيف..

الإعلام في عصر ما قبل الإنترنت، كان مصدر معلومة رئيس. وإنْ لم تتابع الإعلام فهذا يعني أنك خارج دائرة العالم. وكان عليك أن تسعى إلى الخبر، أن تجتهد في الوصول إليه، وليس أن يأتي إليك عبر الموبايل.

كانت ثقافة كثيرين في سوريا تقتصر على مكتبة المدرسة وما يصل من صحف تصل يومياً بعد الساعة الرابعة عصراً عبر التكسي القادمة من مدينة حلب

تلك مرحلة من التاريخ السوري والبشري لا يعرفها جيل السوشال ميديا والإعلام الرقمي. وبما أن الإعلام مصدر معلومة قد لا تكون لدى الآخرين، فقد كانت متابعته مصدر حضور، وتميز. ربما لديك أخبار ليست لدى الآخرين، وتشعر بالامتلاء أحياناً، وتسأل نفسك: لماذا لا يهتم هؤلاء بهذا الذي يشغلني أو يملأ عالمي، هل الخلل بي أم فيهم؟

هو نوع كذلك من توسيع الاهتمامات والشغل بالشأن العام في ظل حالة الانشغال بالخاص، يوم كانت أحاديث القرية لا تتجاوز لقمة العيش ويوميات الجمعية الفلاحية وأثر تأخر نزول المطر على حياتنا اليومية وخططنا في الدراسة أو الزواج، أو أخبار مدير المنطقة الجديد القادم من محافظات أخرى وهل سيكون من المرتشين ومن سيكون مفتاحه؟

كان الشأن العام عند سوريين كثيرين يعني ما يتقاطع مع حياتهم اليومية، وحدُّه الأعلى مدير المنطقة والشعبة الحزبية والمحافظ وقدراته على الفعل ولاحقاً مفرزة المخابرات وقوتها الأسطورية. كانت صورة المسؤول في أذهان سوريين كثيرين هي سلطة من القدرة على الفعل اللامحدود والخروج على القانون، متواشجة مع الرغبة باستعادة زمان فات، يرتبط بمشيخة العشيرة، أو الوجهاء الاجتماعيين أصحاب الحل والربط.

لم يستوعب سوريون كثيرون أن تحركات البشر وممارسة حياته اليومية يجب أن تكون محاطة بقانون، وبقيت ثقافة ما قبل الدولة حاضرة بقوة، كان من الصعب على كثيرين أن يقتنعوا أن هناك حدوداً للمسؤول، وأنه سيكون مقيداً بآليات محددة.

 لم يهنأ سوريون كثيرون بحياتهم لأنهم بقوا في صراع مع السلطة، أو حاولوا تطويع من يمثلونها ليغدوا أدوات بين أيديهم. ساعدهم على مثل هذا الاعتقاد ورفض ثقافة الدولة الدور المخابراتي الكبير في تجاوز القانون في مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي وترسيخ ثقافة الواسطة والاستثناء.

أنْ تنكر بيئتك وتنتقل إلى بيئة أخرى هو صياغة لرغبات فردية، وحلم مستقبلي، وهروب من واقع ضيق الأفق، كذلك هو جزء من رغبة بالتمرد، خاصة أن ما تسعى إليه ليس من نصيحة أو صياغة من حولك هو وعيك أنت. فكيف للشاب السوري أو الفتاة السورية (بنسبة أقل) آنئذ أن ترسم مسار حياتها ولدى كل منهما كمٌّ محدود من المعرفة عن الحياة وخياراتها وتفاصيلها؟

الإعلام السوري في القرن الماضي بكل ما فيه من بؤس وتخشب وبرودة وتوجيه وصناعة وعي متوافق مع السلطة السياسية والاجتماعية والدينية أسهم في صياغة الكثير من خيارات السوريين في الحياة في الريف السوري خاصة، وكان كذلك جزءا رئيسا من صياغة وعي الشخصية السورية في المجتمع العشائري.

لم تكن الأحزاب قد حققت حضوراً كبيراً، وحين تمّ نشر حزب البعث في السبعينيات والثمانينيات وتسويقه كحزب جماهيري والانتقال به من مرحلة الكيف إلى الكم، كان ذلك جزءاً من "باكيت" الاعتراف بالدولة وخدماتها وترسيخ منظومة القائد التاريخي، ولم يقدم الحزب بصفته خياراً فكرياً يختاره من يريد الانتساب إليه، أو طريقة في مقاربة الحياة ومفاهيمها. كانت مصادر المعرفة في معظم الريف السوري هي: العائلة، والمدرسة، والإعلام متمثلاً بالراديو والصحف، والحزب الحاكم ودور العبادة، ومجالس الوجهاء الاجتماعيين، والأشخاص المتنفذين.

كان وعي الكثير من أبناء الريف السوري هو حصيلة صراع الانتماء العشائري والرغبة بالتخلص منه والبكاء على أطلاله، والانشغال بأوجاع الحياة اليومية، والتشبه بنموذج المواطن الجديد الذي أخذت ترسخه الدولة عبر ما يمكن تسميته بالوعي الرسمي عن المواطن الصالح الذي يشيد بالقائد ومنجزاته ليل نهار، ويمتنُّ لأي قرار يصدر عنه. تلك مرحلة طويلة من عمر سوريا تم فيها تشكيل وعي رسمي زائف مسيطر، احتاج السوريون لغسله إلى ثورة من حجم ثورة 2011 راح ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا كي يبدأ الكثير منهم بالتفكير ثانية ومقاربة وجوه الحياة المختلفة دون ذلك الغبار التجهيلي.

يتأمل ذلك الصديق بعد نصف قرن (وقد غدا أباً)، المشهد السوري اليوم، وقد صار "غوغل" هو مصدر معرفة رئيس لأطفاله وله شخصياً. ولم يعد الأب هو مصدر معرفة لأبنائه، وقد حدثت تحولات كثيرة في صورة الأب، ليس بسبب وجود آباء "غير فيزيولوجيين" كثيرين يملكون معلومات أكثر فحسب، بل كذلك في كون الأب تبعاً للقرن الماضي مصدراً قيمياً وأخلاقياً، أما اليوم فيبذل الكثير من الوقت لكي يبقى مصدراً ما في عائلته، وقد أخذت الدولة منه بعد اللجوء الدور المالي كذلك، بعد أن غدت البلديةُ الأبَ الأهمَّ منه.

وفي لحظة نقاش مع أطفاله عن أن البشرية مهما تحولت وتغيرت تبقى فيها أشياء ثابتة... يشاهد عبر تطبيق "تيك توك" مقطع فيديو قصير لسيدة مع طفلها؛ الذي أنجبته من "نطف" اشترتها من بنك خاص...

يغلق التطبيق، ويضع الموبايل جانباً، يتابع ارتشاف فنجان قهوته متأملاً في السماء الملبدة بغيوم الخريف، يمر سرب طيور مهاجرة فيقفز معها مهاجراً إلى اللامكان.