مزرعة الحيوان

2021.06.09 | 05:59 دمشق

2-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

في صورة معلقة على جدران معظم الدوائر الرسمية ويعرفها كل الشعب السوري، يظهر حافظ الأسد واقفاً بثبات من مكان مرتفع، ومن فوق ذلك العلو ينظر إلى الأفق الأسدي، ملوحاً بكلتا يديه للجمهور السوري. وبالطبع، ليست هذه الصورة وحيدة في العالم الأسدي، بل واحدة من ملايين الصور التي ولربما فاق عددها عدد المواطنين السوريين، كجزء من حالة الإغراق الرمزية لتعظيم الأسد التي عززتها الدعاية الأسدية ضمن الحرب النفسية ضد المجتمع السوري، وكحالة ليست غريبة، تقع في عمق الدعاية الأمنية للدولة البوليسية منذ ارتباط كلمتي «دعاية-حرب نفسية» بالأنظمة الشمولية، والغرض المراد منها: التلاعب بعواطف الجماهير باستخدام منظم، والاستفادة من أي اتصال مع الجماهير بقصد التحكم بعواطفها وعقولها لغرض السيطرة عليها.

الرقابة في العرف الاستبدادي تأتي من مصدرها الرّمزي والإحيائي، لتطبيق الخوف مع شعوري «المصلحة والقدوة» كأسس تشكل شرعية السلطة الأبويّة

وإذا كان ظهور الأسد يتكرر في كل مناسبة ومكان: فوق التلال العالية، وفوق القمامة، أو فوق الأعمدة الكهربائية، وعلى واجهات المحالّ التجارية، وفي المهرجانات والمسيرات، والسينما والتلفاز، فهذا الظهور له رمزية متعمدة، بأنه الرقيب على كل شيء، وعلى الجماهير أن تعرف ذلك، وتحبه أكثر دون أن تشكّك في ذلك الحبّ. فالرقابة في العرف الاستبدادي تأتي من مصدرها الرّمزي والإحيائي، لتطبيق الخوف مع شعوري «المصلحة والقدوة» كأسس تشكل شرعية السلطة الأبويّة، لذا إنّ التصاق اسمه بـ «الأب القائد» بدا لفظاً محبباً في المجتمع السوري بكونه يدرك تماماً معنى الأبويّة في سياقها الدّيني والثقافي، ومن هاذين السياقين لم يخرج الأسد، بل أعاد فكرة الأبديّة في الحكم، واستعادها من الأدبيات الدينية. وكذلك استند على إيديولوجيا حزب البعث العربي الاشتراكي، فكان بذلك قد ختم أدوات الأنظمة الشمولية التي تستقي من العلمانية والدين خطابها، جاعلاً «البعث الديني، والأبديّة» في مقابل «البعث الاشتراكي، الملحد» فأسّس حالة من الطّغيان المتأزمة.

وبالرغم من أنّ ليو شتراوس يرفض استخدام مفهوم الطّغيان كـ «أسطورة» في العلوم السياسية، ويفترض انطلاقاً من الأسّس العلمية بأنّه من الممكن أن نفهم حالة الطّغيان بشكل واقعي، إلا أن الأسطورة الأسدية ماثلة بشكل واضح في الخطاب الأسدي، بكونه القائد، والمؤسس والأبديّ، والقادم من التاريخ والتراث مثل صلاح الدين في معركة حطين، في استدعاء مماثل لما كتبه جورج أورويل في روايته «مزرعة الحيوان» لتبدو المواصفات التي يتمتع بها الأسد، هي نفسها التي يتمتع بها «الحيوان الطّاغية» وإذ كان الأسد قد أبدى موافقته على كل تلك الألقاب دون اعتراض، فإنّ الرفيق نابوليون بطل الرواية، أسعدته القصيدة التي كتبت لأجله من قبل أحد الحيوانات «فكل حيوان مدين لك بالتبن الجاف، وبالبطن الممتلئ، أيها الرفيق نابوليون» الأمر الذي دعا نابوليون إلى أن يعلق تلك القصيدة على جدار الحظيرة، وبالقرب منها عُلقت له صورة كبيرة بعد أن منحه رفاقه كل الألقاب «أب جميع الحيوانات، مرعب البشر، حامي حظيرة الأغنام، وصديق فراخ البط» في استحضار أسطوري لمعركة الحيوان ضد الاضطهاد الإنساني.

مع ذلك، ورفضاً لفكرة الأسطورة، يبني ميشيل سورا دراسته للحالة السورية في كتابه «الدولة المتوحشة» دافعاً بأدوات التحليل السياسي لدراسة الأسدية كمفهوم. وإن كانت النتيجة واضحة، هي أن الإشكالية في سوريا، وكما في إطار بلدان العالم الثالث، تكمن بأن الممارسات السياسية تأتي كدلالة على «نفي الدولة». أي بتعبير ياسين الحافظ إن ما يوجد في سوريا هو «نظام شُّخبوطي» يقوم على أنقاض الدولة، ويبدو أن أحداث فارقة في التاريخ السوري قد أسّست لهذا النظام الذي قد بنى نفسه من خلال العصبة السياسية والتحالفات الشّخبوطية، واللعب على تناقضات المنطقة السياسية، إلى الاستثمار بالتيارات الإسلامية، واليسارية في آن واحد، وانقسامات المجتمع الطائفية.

وإذا كانت الحيوانات تعود إلى الطّغيان بعدما تحرّرت من البشر، وباسم الثورة ولّت أمرها لنابوليون، فإن رفاق حافظ الأسد قد فعلوا الأمر نفسه بعدما وصل إلى وزارة الدفاع وبدأ التصحر السوري مع الحركة التصحيحية (الانقلاب البعثي ١٩٧٠). «إن الثورة هي رسالتي إليكم أيها الرفاق... وإنني واثقاً من حتمية مسيرتها...» جاء ذلك في رواية أورويل، كلغة مشابهة للغة الخطاب الأسدي المستخدمة كثيراً لتطبيق فكرتين أساسيتين في زمن مسيرته، وهما: الوعد المستقبلي نحو الانفتاح السياسي الذي وعد به من خلال الحركة التصحيحية، أما الركيزة الثانية والأكثر صدقاً في تطبيقها، فقد تبلورت في قتل السياسة في سوريا، باستخدام العنف والدعاية، فالكلاب تحرس بعناية كل زوايا المزرعة، وفي الوقت نفسه يروج للحظة قيام «جمهورية الحيوان» الواعدة بمستقبل أكثر عدالة ومساواة بما يضمن لكل حيوان حقوقه، وأما وجه الشبه الآخر بأن المرشح الوحيد والأبديّ لهذه الجمهورية هو نابوليون الذي سوف يتم انتخابه في كل زمان بالإجماع.

منذ عهد نمرود يبدو أن البشرية لم تشهد حالة من القداسة للملك والفرعون كما في الأسدية

إن الأنظمة المستبدة لديها ميل رهيب إلى الترويج بأنها مقبولة شعبياً. وكان على السوريين تصديق ذلك. وإن ظهر الأسد في أحد صوره ضاحكاً لأجل ذلك الترويج، فمن الضروري وبعد عدة أمتار أن توجد له صورة أخرى، يكون فيها عابساً وغاضباً وعنيفاً في نظراته، ليوافق ذلك الرعب الذي أحلّه مع تزايد عدد فروع المخابرات، وتلك النظرة التي حرص عليها الأسد لم تأت فقط من نتاج سنوات من البطش، بل قد تدفقت من لحظة تاريخية قد أسّس لها، وهي حرب أكتوبر ١٩٧٣. أنه مثل نابوليون مقتحم الحروب، ومن هذه اللحظات المجيدة في التاريخ المصنّع استحق الصفات التي يراد منها تأبيد الأسد، كفكرة جوهريّة لتأسّيس المزرعة التي سوف يورثها لابنه، ولن يختلف حالها كثيراً حيث عاد الابن للظهور ضاحكاً، واعداً بانفراج سياسي قادم، ملوحاً لرفاقه بيد واحدة، على عكس ما كان يفعل والده، وهذا لتعزيز صورته مع شعارات جديدة، وعلى المرء أن يتجرعها ليل نهار، مع مرادفات إضافية قد التصقت بالأسد الجديد «الدكتور، وقائد مسيرة التحديث، وقاهر الجميع، ومحبط المؤامرات» فجعلهم ذلك دون غيرهم من القادة البشر. فمنذ عهد نمرود يبدو أن البشرية لم تشهد حالة من القداسة للملك والفرعون كما في الأسدية، حيث لن تسمح بأن ينافسها أحد على المستقبل، وعلى البعد الرمزي في التاريخ السوري الذي انبعثت منه رائحة كريهة، تنسل إلى أنف كل سوري، ومن خلف تلك الصور فاح خليط من القسوة، والادعاء، والكذب والفساد والدم، ما جعل سوريا حديقة خلفية لرثاثة البشرية. وهذا الطقس الأورويلي عندما راح الأسديون يرقصون ويرددون «يا وحوش الأسد» أمام صورته في الانتخابات الأخيرة، يدفع كل سوري لشعور بالخجل من هذه الشعائر، فالرواية قد نشرت أولاً عام ١٩٤٥ بينما المشهد الأسدي ظلّ قائماً إلى العام ٢٠٢١.