مرجعيات أميركا لتقسيم وتدمير سوريا

2023.05.25 | 05:45 دمشق

آخر تحديث: 25.05.2023 | 05:45 دمشق

مرجعيات أميركا لتقسيم وتدمير سوريا
+A
حجم الخط
-A

لم يكن انعقاد قمة عربية على هذه الشاكلة التي كوفئ فيها نظام دمّر بلده وهجّر نصف أهلها وقتل نصف مليون منهم، سوى دليل إضافي يظهر أن أقوى دولة في العالم تدعم هذا النظام وتريده أن يبقى، فقد كان واضحا أن أميركا تنفذ منذ سنوات مخططاً ليس لتقسيم سوريا فحسب، بل لتدميرها وتهجير أهلها بوساطة نظام لا يعرف الرحمة...

والأعمى فقط من لا يرى مساعي أميركا العملية في هذا الاتجاه، فمنذ أن صمتت أميركا عن مجزرة كيماوي الغوطة اليي ذهب ضحيتها 355 سورياً أكثرهم من الأطفال والنساء كان من الواضح أنها منحت النظام ضوءا أخضر لفعل ما يريد من جرائم ومجازر، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتبرير تدمير وتهجير وتقسيم سوريا... فدون ارتكاب النظام لمجازر ووقوع ضحايا وتسريب صور آلاف المعتقلين القتلى لا يمكن إصدار قانون قيصر وسواه من قوانين تسبب ضرراً إضافيا للشعب السوري أكثر مما تضر بالنظام، ولتظهر أميركا نفسها كما لو أنها تعاقب النظام، فسياسة معاقبة الشعب السوري بحجة معاقبة النظام هي ذاتها التي أوحت بحصار العراق -الذي مات بسببه نصف مليون عراقي- بحجة معاقبة نظام صدام حسين.

وقد يكون مفهوما لماذا تقف تركيا في وجه المسعى الأميركي لتفتيت وإضعاف سوريا، فموقف تركيا المبدئي هذا ليس حباً بسوريا ولكن خشية من أن يؤدي تقسيمها إلى تقسيم تركيا، الأمر الذي يجر حتما إلى حروب يُعرف أولها ولا يُعرف آخرها، مما يحلو لبعض البسطاء أن يقرنوها بنبوءات توراتية وإسلامية تقول إنها تفضي إلى حرب القيامة النووية، وربما تكون قيامة على شكل مذابح وتهجير وتغيير ديمغرافي واسع النطاق يشمل الشرق الأوسط برمته...

هذا السيناريو شهدنا شبيها له، على نحو مصغر في كل من العراق وسوريا، وقبلهما في لبنان، وقبل كل ذلك في فلسطين... وهي على ما تبدو استراتيجية أميركية أساساً، وأوروبية إلى حد ما، عمرها قرن من الزمان.

يقول المحللون الاستراتيجيون إن أميركا إنما تفعل ما تفعله في العراق وسوريا وقبلهما في أفغانستان تجهيزاً للمواجهة الكبرى مع الصين، لكن، أين كانت الصين عند احتلال فلسطين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم؟ وسيقول البعض إنها كانت سياسة أميركية لمواجهة الاتحاد السوفييتي... لكن أين كان الاتحاد السوفييتي عندما التقى كل من سايكس وبيكو لتقسيم المشرق العربي سنة 1916؟

خلفية تاريخية دينية لغزو وتدمير الشرق!!

الحقيقة هي سياسة ثابتة بدأها الغرب منذ القرون الوسطى بقيادة رجال المال واللاهوتيين المتحمسين الذين كان بعضهم يعتبر مدينة القدس "أورشليم" عاصمة العالم المسيحي الممتد من سواحل شرق المتوسط وصولا إلى سواحل الأطلسي الأوروبية، وما زال بعضهم في الغرب يؤمن بهذه المكانة لأورشليم القدس، وما حولها، من حواضر ذات رمزية دينية، وتاريخ حضاري عريق!!  

قبل أيام كنت أتنقّل بين قنوات اليوتيوب كما هي عادتي كل مساء، فتوقفت عند قناة متخصصة بالملاحم، يديرها شخص عربي يقول إنه مسلم، لكنه في كلام له عن دمشق وحرب سوريا، ظهر مروّجاً لرؤى توراتية صهيونية من قبيل أن دمشق سوف تدمر حجراً بعد حجر، كما يقول هذا الشخص- لن أذكر اسمه كيلا أساهم في انتشاره- ذلك ومن عينيه يشعّ كره وفي سحنته شماتة والأخطر في صوته إيمان بما قاله "نبي توراتي" قبل ألفي عام أو أكثر...من أن "دمشق سوف تدمر حجرا بعد حجر..." !!

فإذا كان عربي "مسلم" مهووس بالملاحم والنبوءات يروج أفكارا وتصورات هي من صميم العقيدة الصهيونية المسيحية، فلا عتب على أوروبيين وأميركان يؤمنون بما يؤمن به هذا الرجل، ويعملون على تنفيذ هذه "النبوءة".. أو يتمنون تحقيقها دون أن يفكروا بالثمن الإنساني الذي سيدفعه بشر يعيشون في هذه الأرض، دمشق وسوريا..

الغريب حقا أن يعبر بعض المسلمين المهووسين بالإسرائيليات التي تتوزع في كتب التفسير والسنن وسواها، يعبرون منها مباشرة إلى التوراة ليفسروها كما يفسرها أصحابها، فيصبحون صنواً لهم في أوهامهم...

لم تأتِ هذه القناة على اليوتيوب من فراغ، فهناك خلفية تراثية لهذه الرؤى تتمثل كما قلنا فيما يسمى بالإسرائيليات التي غزت تراثنا العربي الإسلامي، رؤى تحوّل المؤمنين بها إلى أشخاص مسرنمين يعتقدون فعلا أنها حتمية التحقق، حتى إن موقعا إلكترونيا إيرانيا تحدث قبل سنوات عن تدمير دمشق كمقدمة لظهور السفياني.

تتلاقى هذه الرؤى بمحض المصادفة ربما مع تيار قوي داخل أميركا هو من غذّى فكرة تدمير العراق- بابل ومن ثم سوريا ودول عربية أخرى على خلفية اعتقاد ديني توراتي، وهؤلاء يعتقدون أنهم يقدمون خدمة للدين بتعجيل قدوم المسيح المنتظر الذي لن يأتي إلا بعد تدمير أعدائه، يسمي هذا التيار نفسه بالصهيونية المسيحية، ولا شك بأن المحافظين الجدد هم النسخة الأشد قوة وخطرا في هذا التيار أو المذهب الديني السياسي..

فها هو برنار لويس أهم منظّر أميركي في العقدين الأخيرين، والمرجع الأول للمحافظين الجدد، يطرح عدة خرائط لتقسيم العراق وسوريا وتركيا والجزيرة العربية وليبيا منطلقا من كراهية شعورية للعرب والمسلمين الذين يعتبرهم الخطر الأول على العالم، أي على أميركا، ويقول إن أميركا وحدها من يمكنها مجابهتهم، ولا يجد حرجا من القول إن "الشيء الوحيد الذي يمكن فعله مع العرب هو ضربهم بالعصا بين عيونهم".

سقوط أميركا الأخلاقي مستمر:

الحقيقة أن مساعي أميركا للهيمنة على العالم التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، سبقتها خطوات انحرافية في نظرتها للعالم وللشرق خصوصا جعلت مفكرا عربيا مغمورا عاش في أميركا هو أنطون سعادة يكتب قبل قرن من الزمن مقالا بعنوان "سقوط أميركا من عالم الإنسانية الأدبي" يحتج فيه على موقف أميركا من احتلال فرنسا لسوريا، وعنوان المقال يكفي لإيضاح أن سياسة أميركا افترقت منذ ذلك الوقت عن الأخلاق، وعن مبادئ أحد رؤسائها ويلسون الذي اشتهر بمبادئه الأربعة عشر، يقول سعادة:

"في الساعة الّتي أمضت الولايات المتّحدة صكّ التصديق على استعمار فرنسا لسوريا، مع ما تعلمه بما يحلّ بسوريا من ويلات ذلك الاستعمار، أمضى التاريخ حكمه وسقطت الولايات المتّحدة سقوطًا أدبيًّا مخجلًا. وستظلّ الولايات المتّحدة ساقطة إلى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم". ويتابع قائلا:

"يجب على الولايات المتّحدة أن تفقه أنّها بموافقتها على استعمار سوريا قد أساءت إلى هذه إساءة لا يمحوها بذل الدولارات، لأنّها إساءة تعمَّدت الولايات المتّحدة إتيانها دون أدنى مسوّغ بعد أن صرفت في درسها أشهرًا وسنينًا، وكان الأجدر بها أن تضعها جانبًا إذ لا حاجة لها بها، فكانت أبقت على تلك المنزلة السامية الّتي كانت لها ولرعاياها في قلوب السوريين والشرقيين والعالم. ولكن من أين لنا بمن يجعلها تصغي لصوت الحقّ ويقنعها بوجوب الإسراع إلى التكفير عن إساءتها؟"

ترى كم مرة يجب على أميركا أن تسقط من عالم الأخلاق لتستيقظ أخيراً وليستيقظ أتباعها المنبهرون بها في الشرق؟