"مدرسة شملان" يوم مررتُ في وكر الجواسيس 3/3

2021.01.18 | 00:01 دمشق

b07a825d-7166-4407-b22e-0ca435d5e487.jpg
+A
حجم الخط
-A

بينما قضينا في دورتنا المكثّفة في "مدرسة الكادر" بشملان شهراً واحداً فقط، فإن طلاب "ميكاس" كانوا يقضون 18 شهراً في المدرسة، يتخللها تدريب عملي يسافر الطلاب خلاله إلى المناطق المحيطة للاحتكاك العمليّ بالمجتمع. يذكر المؤلف إيثار بعض الطلاب قضاء تلك الفترة في مناطق ومدن محددة منها قرية "وادي العريش" في زحلة بلبنان، ومادبا في الأردن، وفي سياق إشاراته للاستعدادات العسكرية التي سبقت الحرب اللبنانية، سيتحدث المؤلف عن ملاحظاته وطلاب ميكاس أثناء تنقلاتهم لمعسكرات تدريب كانت قد بدأت تنتشر في عدد من المناطق اللبنانية، ويذكر منها "كسروان" وبعلبك التي يصفها بأنها أضحت معسكر تدريب للشيعة. حتى أنه يروي أن أهالي قرية وادي العريش الموارنة، حاولوا تجنيد أحد طلاب "ميكاس" من ذوي الخلفية العسكرية ليكون مستشاراً عسكرياً لهم، تحسباً لأيام الشدة القادمة.

كثير من طلاب المركز وصلوا بهدف التدريب العملي إلى حلب ودمشق في سوريا، بل وعديدون منهم، وبمساعدة السفارة البريطانية بدمشق، قضوا تدريبهم في الجناح البريطاني بمعرض دمشق الدولي بهدف الاحتكاك المباشر. ولا عجب أن نجد من بين خريجي ميكاس سفيرين لبريطانيا في دمشق هما "أيدريان سيندال" والسير "روجير تومكيس"، الذي أشرفَ، عندما كان طالباً في ميكاس، على بناء ملعباً للأسكواش على سطح المركز، لتغزو المحيط شائعة تفيد بأن البناء الملحق الجديد إنما هو مرصد للمراقبة يشرف على السهل الساحلي ومنطقة خلدة حيث مطار بيروت، بحسب ليزلي ماكلوكلين.

ليوم واحد سُمح لنا أن نغادر المدرسة في إجازة، نزلنا صديق الطفولة طلال فارس وأنا مع صديقة لبنانية، مقرّبة من الجبهة، إلى بيروت بسيارتها. سنتنقّل ليلاً في أحياء بيروت الغربية، وصولاً إلى خطوط التماس مع الجانب الشرقي للمدينة المقسّمة، حيث سنقضي سهرتنا وليلتنا في بيت أحد الأصدقاء. هناك في شوارع خالية ومظلمة محاطة ببيوت بدَت ميّتة، سرنا ثلاثتنا بخفة وهدوء اللصوص، مع إحساس لم يزاولني، طوال الوقت، أن رصاصة يمكن أن تصيبني في أية لحظة، لشدّة ما شاهدت من شرفة المدرسة حواراً بالرصاص يتبادله طرفا المدينة كلّ ليلة. صباحاً وفي طريق العودة، أوقف سيارتنا "حاجز طيّار" لحركة أمل، وإلى أن تأكد عناصر الحاجز من هويّاتنا، واستطاعوا بصعوبة التمييز، أن "جبهة التحرير الفلسطينية" هي غير "جبهة التحرير العربية" التي كانت تتبع لحزب البعث العراقي. مع التوتّر الظاهر في حركات وردود أفعال عناصر الحاجز العصبية، فإن الدم أوشك أن يجفّ في عروقنا. شخصياً، كانت كل خشيتي أن يكتشفوا بأنني سوري ولست فلسطينياً، وحدث أن نجونا.

فكرة إنشاء مركز "ميكاس" ظهرت أساساً بدافع أن "رومل" القائد الألماني الشهير من الممكن أن يشق طريقه إلى مصر، "مما يستدعي وجود موظفين بريطانيين يجيدون اللغة العربية

حتماً لم يكن الأمير الكويتي، الذي سبق وتحدثتُ عن الدراسة التفصيلية التي وجدتها عنه هناك، الوحيد الذي كان موضع اهتمام ميكاس، وبالتأكيد فإن هناك مئات الدراسات عن شخصيات المنطقة من القادة والسياسيين والفاعلين والمؤثرين في الرأي العام. سيذكر ماكلوكلين احتكاك طلاب ميكاس، الذين كانوا يرغبون بتطوير مهاراتهم حسب تعبيره، بسياسيي المنفى فيما هم جالسون على أرصفة مقاهي شارع الحمرا في بيروت الستينيات التي كانت تستقطب هؤلاء الفارين من حكومات بلادهم في سوريا والعراق والأردن. وأكثر من ذلك سيتحدث أن شملان ذاتها أصبحت مقراً صيفياً للرئيس السوري السابق ناظم القدسي بعد انقلاب 8 آذار عام 1963.

رغم أن فكرة إنشاء مركز "ميكاس" ظهرت أساساً بدافع أن "رومل" القائد الألماني الشهير من الممكن أن يشق طريقه إلى مصر، "مما يستدعي وجود موظفين بريطانيين يجيدون اللغة العربية، يستطيعون العمل بين صفوف العدو" بحسب وثيقة بريطانية. لكن تحوّلات كبيرة سيشهدها الدور الوظيفي للمركز مع مرور السنوات. تغيّرات ستبدّل من طبيعته. المُطّلع على سيرة المركز سيتوصل، فيما لو لم يكن من ذوي الرؤوس الحامية، إلى قناعة هادئة ولكن راسخة، قد يختلف معها البعض، بأن "ميكاس" بالتأكيد لم يكن مركزاً للتجسس رغم أنه قام بالكثير من هذا العمل، ولا حتى مدرسة لتعليم الجواسيس، فقد انتسب إليها في فترات لاحقة، طلاب من دول الكومونولث وحتى من أميركا واليابان وألمانيا وسويسرا وغانا، كان منهم رجال أعمال ومديرو شركات نفط وخبراء بنوك، وحتى زوجات أجنبيات لدبلوماسيين ورجال أعمال عرب أردنَ تعلم اللغة العربية، مع دفعهم لرسوم الانتساب التي لم تكن قليلة. لكن هذا بالطبع لن ينفي أن "ميكاس" كانت محطّة مرّ بها معظم، إن لم يكن جميع، عملاء المخابرات البريطانية الذين احتاجوا أن يعملوا في المنطقة العربية، وكذلك الدبلوماسيون، وبالتأكيد فإن مناهج ميكاس كانت أكثر ما تتجاوب مع احتياجات هؤلاء. أما بالنسبة للجواسيس الذين عرفتهم شملان، فهؤلاء حتماً تدرّبوا على ما يمكن وصفه بتقنيات التجسس في أماكن أخرى، أكثر سريّة، ولا تحوي كل هذا الخليط من المشاركين.

ارتبط اسم "ميكاس" أكثر ما ارتبط بالجاسوسية، بسبب السمعة المعروفة في مجتمعات النخبة العربية عن المملكة المتحدة

يستشهد المؤلف ليزلي ماكلوكلين باقتباس على لسان "ماكلينان" السفير البريطاني في لبنان في التسعينيات، الذي التحق طالباً بمركز ميكاس عام 1966: "بعد سنة ونصف أصبحت قادراً على قراءة الصحف ومتابعة نشرة الأخبار والدخول في نقاش جاد مع أحدهم في موضوعات سياسية واقتصادية، إلا أن ما يميز دراستنا في المركز هو تعلم ثقافة وتقاليد وحضارة المنطقة، وهي مفتاح لمعرفة كل ما يدور من حولك. فما يفكر به العرب ينعكس في لغتهم وأدبهم، وبالتالي نحن تعلمنا كيف يفكر العرب، وما تعلمته استخدمته في عملي الديبلوماسي، وخصوصاً في دول الخليج". ربما يكون هذا الاقتباس هو الأبلغ في التعبير عن دور ووظيفة مركز "ميكاس"، إضافة إلى أنه يدلل على حرص بريطانيا على رعاية ومتابعة مصالحها وأطماعها حول العالم بأكفأ الطرائق، خاصة عبر الاستثمار بالمعرفة.

على الأرجح، ارتبط اسم "ميكاس" أكثر ما ارتبط بالجاسوسية، بسبب السمعة المعروفة في مجتمعات النخبة العربية عن المملكة المتحدة، بسعيها الدائم والحثيث إلى التغلغل في مفاصل المجتمعات التي تهمّ السياسات البريطانية، وسوف نجد أن هذه السمعة لم تكن في المحيط العربي فقط، إنما كانت تسود حتى لدى الكثير من النخب البريطانية نفسها، فقد اعتبرها حتى أحد طلابها "بركة جيدة لاصطياد الجواسيس". ولذلك لم يكن من الغريب، عندما انتقلت المدرسة إلى بريطانيا لشهور قليلة بعد حرب 1967، أن نجد عنواناً رئيسياً يتصدر صحيفة صانداي تايمز "مدرسة الجواسيس البريطانية تنتقل إلى بيكنغهامشير".

بعد سنوات من انفراط عقدها، سيقام عشاء لتدشين "جمعية ميكاس" التي ضمّت خريجيها السابقين، وسوف تغطّي صحيفة التايمز اللندنية الخبر بعنوان مثير "الشبكة القديمة تلتقي مجدداً"، مع نشر صورتي طالبي "ميكاس" السابقين الجاسوسين جورج بليك وكيم فيليبي. عموماً يبدو أنه كان من الصعب على متابعي سيرة مدرسة شملان، من منتقدي وجودها في لبنان أو حتى مؤيديه، إغفال القول الشائع الذي أورده المؤلف في كتابه: "لا تتحرك سمكة في البحر إلا ويعلم الإنكليز بأمرها".