"مدرسة شملان" يوم مررتُ في وكر الجواسيس 1/3

2021.01.05 | 00:01 دمشق

b07a825d-7166-4407-b22e-0ca435d5e487.jpg
+A
حجم الخط
-A

لطالما ساءني عندما كنت طفلاً وحتى يافعاً، ألّا أجد اسم قريتي السورية الصغيرة في خرائط كتب الجغرافية المدرسية، ولا حتى في تلك الخرائط الكبيرة لسوريا التي يحضرها معه الأستاذ إلى الصف. لكن في صيف عام 1980سأُسعد شاباً برؤية اسمها على خريطة تفصيلية عملاقة لمنطقة الشرق الأدنى، كانت تتوسط القاعة الرئيسية للطابق الثاني في "مدرسة شملان" اللبنانية، مطبوعة على لوح معدني يمتد على أكثر من 3 أمتار طولاً.

في كتاب "وكر للجواسيس؟ حكاية مدرسة شملان" لمؤلفه البريطاني "ليزلي مكلوكلين" الصادر باللغة الإنكليزية عام 1994، والذي حرره المؤلف بنفسه باللغة العربية، سيذكر ملاحظة، أرادها عابرة، تفيد بأنه قد حذف من النسخة العربية بعض الأمور الواردة في النسخة الإنكليزية، لأنها تهم القارئ الإنكليزي فقط، ولن تؤثر على جوهر الكتاب. البروفيسور مكلوكلين الأكاديمي البريطاني، والمترجم المعروف، والمحاضر المرموق في الدراسات العربية والإسلامية في جامعات إدنبره، كولومبيا، بنسلفانيا وجامعة جورج تاون، إضافة إلى كونه مؤرخ متخصص في تاريخ المملكة العربية السعودية، كان معلماً أول (المنصب الثاني إدارياً) في مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية "Middle East Centre for Arab Studies" بين عامي 1965/1975، المعروف اختصاراً في التدوال البريطاني بمركز ميكاس "MECAS".

يؤرخ الكتاب للمركز منذ تأسيسه وحتى إغلاقه خلال الحرب اللبنانية. بدايةً، من عنوان الكتاب الذي يحوي إشارة الاستفهام التي تقصدها، يحاول المؤلف (ظاهرياً كما أعتقد) تبرئة "مدرسة شملان"، وهذا اسمها الشهير في لبنان والمنطقة، من التهمة التي التصقت بها باعتبارها مركزاً لتدريس وتعليم الجواسيس التابعين للمخابرات البريطانية. وكان الزعيم اللبناني كمال جنبلاط أول من أطلق عليها لقب "وكر الجواسيس".

من الطريف في الكتاب أن المؤلف، وهو يستشهد ببعض التقارير الرسمية التي تشير لعلاقة المركز بالمخابرات البريطانية، فإنه سيعتبر الأمر مجرد سوء تعبير وليست حقيقة المركز بالواقع

باشر المركز عمله في القدس عام 1944 تابعاً لقيادة الجيش البريطاني، وسيكون أول من يحتل منصب المعلم الأكبر فيه "أبا إيبان" الذي سيصبح وزيراً للخارجية الإسرائيلية فيما بعد. خلال حرب عام 1948، وبسببها انتقل المركز مع طلابه من الضباط وموظفي الخارجية البريطانية إلى مدينة الزرقاء الأردنية، وبقي الطلاب هناك شهور قليلة، يدرسون في الخيام بظروف سيئة، سيحتملونها بانضباط عسكري تام، ريثما يقع الاختيار على موقع جديد، سيكون معملاً بسيطاً وصغيراً للحرير في قرية "شملان" المسيحية في قضاء الشوف اللبناني الذي يسوده الدروز، والتوصيف الطائفي ليس نافلاً هنا، ولتتحول تبعيته من قيادة الجيش إلى الخارجية البريطانية، ثم لينتقل أخيراً إلى مبنى لفندق حديث كان بني في القرية ذاتها، وهو المبنى الذي سيلتصق به اسم "مدرسة شملان" حتى بعد إغلاقه النهائي نتيجة ظروف الحرب الأهلية اللبنانية عام 1978.

من الطريف في الكتاب أن المؤلف، وهو يستشهد ببعض التقارير الرسمية التي تشير لعلاقة المركز بالمخابرات البريطانية، فإنه سيعتبر الأمر مجرد سوء تعبير وليست حقيقة المركز بالواقع. والأدهى أنه يصف واحدة من تلك الإشارات الواردة في وثيقة رسمية بأنها "زلّة فرويدية". مع ذلك فإنه، لأكثر من مرّة، سيشير إلى هذا الارتباط صراحة، إحداها وهو يروي كيف كانت ستنهار فكرة إنشاء المركز قبل إقرارها عام 1943 بسبب معارضة وزارة الخزانة وشكوكها حول قيمة المركز المقترح، فاقتضى الأمر أن يرسل الوزير البريطاني "لورد موين" مؤيد الفكرة، مناشدةً من القاهرة إلى وزير الخزانة (سيقتل لورد موين في القاهرة على يد منظمة "ليحي" الصهيونية عام 1944). إحدى الحجج الدامغة التي ساقها في رسالته للدفع إلى إقرار تمويل المركز ورد فيها "إن هناك شح واضح في أعداد الضباط الميدانيين المؤهلين تأهيلا مناسباً للقيام بالعمل الاستخباراتي". وفي مقطع آخر يتناول فيه الترشيحات للدراسة في "ميكاس" سيورد المؤلف اقتباساً من وثيقة عن تلك الترشيحات جاء فيها "... فضلاً عن عدد من الطلاب رشحتهم لجنة اختيار في القاهرة برئاسة العميد کليتون" وكليتون بحسب المؤلف كان حينها مدير جهاز المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط.

سيتضح للقارئ بما لا يقبل الشك، رغم التحولات التي ستأتي تالياً وتعدّل من هويته، أن الهدف الأول من إنشاء المركز هو تأهيل ضباط من الجيش البريطاني وموظفين من الخارجية، وتعليمهم اللغة العربية والعامّية المحكية، وتثقيفهم بكل ما يلزم لناحية التاريخ والجغرافيا والسياسة والعادات والتقاليد وحتى العقائد، ليكونوا قادرين على التعايش مع مجتمعات المنطقة، وليعملوا في المنطقة، إن كان كعملاء متفرغين للمخابرات، الأمر الذي حرص المؤلف أن يسخر منه في معظم فقرات كتابه، أو كخبراء وديبلوماسيين في المنطقة.

سيتباهى المؤلف بأن المركز أصبح ذا سمعة عالمية خلال الستينيات في مجال تعليم اللغة العربية الحديثة. كما أن طلابه ارتقوا مناصب نافذة خلال العقود الثلاثة التالية "فأصبح عدد منهم سفراء لبلادهم. وفي بريطانيا ذاتها، فإن ثلاثة من آخر خمسة رؤساء للسلك الدبلوماسي تخرجوا من میکاس، وتم تعيين خريج آخر رئيساً لدائرة المخابرات البريطانية في الخارج" ويضيف في موقع آخر "نجا السفير مایکیل ویر من الاغتيال، فقد كان أحد اثنين من خريجي ميکاس على منصة الشرف عندما اغتيل الرئيس أنور السادات في السادس من أكتوبر من عام ۱۹۸۱. أما الثاني، وكان تخرج من شملان بعده بجيل كامل، فقد أصيب بجراح بالغة خلال إطلاق النيران ولكنه تعافي. إنه جون ودز الديبلوماسي الأسترالي".

سيشير أحد الإداريين وهو يعرّفنا على المبنى إلى غرفتين ويقول "في هذه الغرفة كان يقيم الجاسوس البريطاني الشهير كيم فيليبي وفي تلك أقام جورج بليك"

في صيف عام 1980 سيتثنى لي أن أدخل "مدرسة شملان" وأعيش فيها لشهر كامل، مع مجموعة من قرابة ثلاثين شاباً معظمهم فلسطينيين، جاؤوا من عدة بلدان، لننتظم في دورةٍ للكادر السياسي لجبهة التحرير الفلسطينية، التي احتلت مبنى المدرسة بعد إغلاقه وهجرة ميكاس عنه، وكنت السوري الوحيد بينهم. هناك سيشير أحد الإداريين وهو يعرّفنا على المبنى إلى غرفتين ويقول "في هذه الغرفة كان يقيم الجاسوس البريطاني الشهير كيم فيليبي وفي تلك أقام جورج بليك". في كتابه أقر مكلوغلين بأن بليك كان فعلاً من طلاب ميكاس وأنه اعتقل منها، وكان استأجر بيتاً لعائلته في القرية. وسوف يحاكم في بريطانيا بتهمة العمل لصالح المخابرات السوفييتية، ويحكم عليه بأطول فترة سجن عرفتها بريطانيا في تلك الفترة، وهي 42 سنة، ليهرب من السجن بعد 5 سنوات بمساعدة من إيرلنديين، ويفرّ إلى الاتحاد السوفييتي عابراً جدار برلين. وبعد سنوات طويلة سيصدر مذكراته، ويذكر فيها مصاعب الدراسة في ميكاس. لكن المؤلف سينكر أن "كيم فيلبي" كان طالباً في المدرسة، ويؤكد أن علاقته بها لا تتعدى عدة زيارات رفقة والده للمدرسة، وبصفته الصحفية وليس كدارس فيها. وفيلبي كما هو معروف فرَّ أيضاً إلى الاتحاد السوفييتي عام 1963. وليست مسألة نافلة القول إن افتضاح أمر هذين الاسمين إعلامياً وتعاملهما المزدوج هو الذي جعل الكاتب يوردهما كعميلين للمخابرات السوفييتية. أحدهما وهو بليك عميل مزدوج بريطاني/سوفييتي، ولن يبدو ذلك كرماً من المؤلف، الذي لن يضطر، لإفشاء ارتباطات مخابراتية لأسماء أخرى من منتسبي المركز الذين تجاوزوا الألفي طالب خلال تاريخه، رغم أنه كثيراً ما ألمح إلى ذلك. بكل الأحوال فإني شخصياً اعتقدت وأنا أطالع الكتاب، أن أكاديمياً مرموقاً بذكاء مكلوكلين لن يقع في تلك التناقضات سهواً، ودون أن يدرك ما يقدم من معلومات.

 بينما كنت أتلقى الدروس مع الرفاق نهاراً، ونتمشى بحذر (كما طُلِب منّا) في القرية عصراً، لنصل أحياناً إلى "سوق الغرب" القرية الصغيرة المجاورة، فإننا سنستمتع من على الشرفة الرئيسية ببرد شملان ليلاً خلال شهر آب، ونحن نقضي سهراتنا بثياب شتوية تقريباً، مطلّين على بيروت المنبسطة كاملةً أدنانا بحوالي 800 متراً، ونشهد ليلها وهي تتبادل بين "شرقيتها" و"غربيتها" رسائل البارود التي كانت تغطي المدينة، ونراقب رشقات الرصاص "الخطّاط"، الذي يبدو أنه كان ينطلق كي لا يصيب شيئاً رغم غزارته، حسب نشرات أخبار اليوم التالي. هناك وخلال شهر، سيتثنى لي الاطلاع سرّاً على بعض الوثائق التي تُدرَّس في "ميكاس" وكانت مرمية بإهمال في مستودع معلبات الأطعمة، وكان مفاجئاً لي كيف أن الكادر البريطاني لم يتلفها حين أخلى المدرسة.