مخرج بوتين الوحيد

2020.05.04 | 00:01 دمشق

thumbs_b_c_e39a9b9d812dbc8758d18e20426b4a92.jpg
+A
حجم الخط
-A

أنكَر الروس باستمرار أنهم في سوريا لحماية الأسد، ودأبوا على القول بأن هدفهم محاربة الإرهاب، وغايتهم "حماية الدولة السورية"؛وعندما كان يُقال لهم إن هاجسهم الأسد الذي يحمي مطامعهم، كانوا ينفون ذلك؛ حتى عندماوصل الأمر بالبعض لاعتبار أن "شمس الحل في سوريا تشرق من موسكو"، قالوا إن الحل سوري-سوري، وتملصوا من مسؤولية مايفعلون.

إذا كانت مكونات الدولة، التي يصرُّالروس على أنهم حريصون عليها، تتكون - كماهو متعارف عليه- من {شعب} تجمعه آمال وآلام ولغة وأرض وجملة من الأهداف المشتركة...، و- من {أرض} آمنة محميّة لكل أهلها، و- من{سيادة} وطنية مصانة؛ فأياً من هذه المكونات أو الركائز حرصت روسيا عليها؟  لا بد من الإقرار بأنه إذا كان ذلك قد تحقق في سوريا، فيكونون على حق؛ وإن لم يتحقق، فعليهم أن يقبلوا بأن تواجدهم في سوريا كان احتلالاً (أو على الأقل انتداباً) غايته تحقيق مصالحهم متخذين من السلطة الأسدية ما يشبه "حكومة فيشي"، كي ينفّذوا مآربهم؛ وبذا عليهم  تحمل تبعات الاحتلال بكل مسؤولياته تجاه المناطق المحتلة ومن عليها، أو أن يخرجوا، ويتركوا السوريين يتدبروا أمورهم بأنفسهم.

 لننظر بداية في القضايا التي كان لا بد أن تصونها روسيا، بناءً على تصريحاتها، بأنها في سوريا "لحمايةً الدولة السورية"؛ فنجد أن السوريين لم يتبعثروا، ولم يُهانوا، ولم يطالهم الوجع والعوز وغياب الأمن والأمان، كما هوحالهم الآن؛  وأن الأرض السورية لم تُستَبَح بقدر ما استبيحت من قبل دول وميليشيات وأفراد في هذه الفترة؛ وأن "السيادة السورية" لم تُنتًهًك بقدر ما انتُهكت بالعهد الروسي- ليس من قِبَل تلك القوى، بل من روسيا ذاتها: فما معنى أن الروسي يدخل، ويخرج، ويأمر،ويوقّع، ويعيّن، ويزيح، ويعزل ما ومن يريد، دون أي اعتبار للسيادة السورية؟! أو عندما تستدعي روسيا "رئيس السيادة" بطائرة شحن، لتلتقيه كأي شخص عادي، فهل هناك ماتبقى من سيادة؟!

إذا كانت روسيا لم تكفكف دموع أُمٍ سوريةٍ ثَكَلَت ابنها الذي قضى في معتقلات"الدولة" التي تحرص عليها، ولا أنجدت سوريةً يدنس شرفها الميليشيات التي تتحالف معها؛ وإذا كانت قد استخدمت قوة "الفيتو" لحرمان شعب هذه الدولة من العدالة والإنصاف، حتى عندما استخدم حليفها السلاح الكيماوي ضد شعبه؛ وإذا كانت هي ذاتها ساهمت بتدمير آلاف المباني وقتل الآلاف من هذا الشعب وتشريده؛ فكيف تكون حريصة على الدولة السورية؟!

من السذاجة اعتبار روسيا غافلة عن كل ذلك، ولكنها ربما اعتقدت بأن تزوير الحقائق، وتزييف الوقائع، والمكابرة قد يجعلها تتفلت من هكذا مسؤوليات. المفارقة، أن المستفيد الأساسي من تدخلها، والذي راهنت عليه في نجاح مقاربتها البائسة للقضية السورية، هو ذاته يخذلها؛ أحياناً مختاراً، عندما يحاول اللعب على المتناقضات، وأحياناً خارج إرادته، عندما يفشل في إدارة الفساد، ويرضخ للابتزازات الإيرانية، والميليشياوية، وتورمات مراكز القوى العائلية حوله (فهل يغفل السوري عن حوت المال القديم رامي مخلوف، والحوت الجديد أسماء بظهيرها البريطاني وتناقضاتهما وانفضاحهما أو مسرحياتهما التي لن ترمم ما ينهار)؟!.

أمام كل ذلك الفشل الذاتي والموضوعي؛وبعد أن اعتقد السيد بوتين أن القفز إلى الغنيمة السورية قد يخفف ملفاتها الثقيلة في القرم وأوكرانيا وجورجيا، وفي ظل اقتصاد روسي مهترئ، ومقاطعة غربية موجعة، وإغراء تركي ثمين، وتدهور في أسعار النفط، وكساد في أسلحة ارتكبت روسيا أبشع الجرائم لاستعراضها وتسويقها؛ وأمام داخل روسي يتململ؛ لا بد أن بوتين- التكتيكي المتألق- قد قرر إعادة حساباته؛ وربما على رأسها وقف الاستنزاف السوري، الذي ربما قد يسحب قدمه إلى ما يشبه المغطس الأفغاني.

ولكن، إذا كان بوتين يعتقد أنه قد حقق حلم القياصرة بالوصول إلى المياه الدافئة في المتوسط، وأنه يعوّل على سلطة عميلة له في دمشق تكفل سلامته من السواد الأعظم من السوريين؛ وإذا استمر ببهلوانياته من خلال شن حملة إعلامية روسية تظهر فساد سلطة دمشق وعجزها بدايةً، ومن ثم إعطاء أوامره لتلك السلطة  في سوريا لاتخاذ إجراءات توهم السوريين وغيرهم بأن سلطة دمشق قوية وقادرة على قمع الفساد بادئة برأسه الأكبر رامي مخلوف، وستنتقل إلى مفسدين آخرين ربما زوجة الرئيس أو  أخيه ومن تحت حمايتهم مروراً ببعض مراكز قوى لإيران، بغاية إظهار رأس السلطة في وقت قادم كمخلِّص قوي نزيه جاهز لاستحقاق الانتخابات الرئاسية القادمة؛ فأنه بذا يثبّت على نفسه أولاً بأنه في سوريا لحماية الأسد حصراً، لاعتقاده الراسخ بأنه الوحيد الذي يحمي له مصالحه ومصالح روسيا في سوريا، وثانياً، سنراه يغوص في أخطائه أكثر. فذكاء بوتين لا بد يدلّه على أن السلطات العميلة أعجز من أن تحمي أسيادها، و لا بد لذاكرته أن تسعفه فيما إذا استطاعت حكومة"بابراك كارمال " أو "حفيظ الله أمين " العميلتين من حماية الجنود السوفييت من غضب المواطن الأفغاني العادي، ولا بد أنه يعرف بأن السوريين قد يعفوا ولكن لن ينسوا الفظائع التي ارتكبها الروس بطائراتهم وأسلحتهم ضد الأطفال والنساء والمدنيين؛ويدرك أيضاً أن السوريين وغيرهم يعرفون بأن الفساد والعجز والخلل والخراب في الرأس الأكبر و بمنظومته حصراً.

بوتين أمام اللحظة الحاسمة؛ إما أن يكون في سوريا سلطة انتداب تنغصها دولياً إيران وأمريكا وإسرائيل وتركيا، ونظام يلاحقه الكيماوي وقيصر والفشل والفساد والوهن والنقمة، وشعب سوري لن يسكت على الظلم والاستبداد؛ أو العودة إلى القرارات الدولية التي تنص على انتقال سياسي "بهيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات"، لا وجود فيها لمنتسب أصلاً بكل هذا الوباء. صحيح "إن الخطايا القديمة لها ظلال طويلة، كما تقول الكاتبة البريطانية "أغاثا كريستي"، ولكن الرأي الصائب في اللحظة الحاسمة هو الذي يجعل المرء يتعظ من تجاربه وتجارب الآخرين السابقة.

ملحوظة لاحقة: إن التسجيل الأخير لرامي مخلوف يجعل أي لعبة روسية في تقديم الأسد كمخلّص شبه مستحيلة. ويبقى أمامه المخرج الوحيد: انتقال سياسي دون مَن تسبب بالوباء. هكذا يريح ويستريح.

كلمات مفتاحية