محور الاستبداد

2022.04.30 | 04:32 دمشق

30139196638985.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يتشكل محور الاستبداد بمسعى من دول عربية وإقليمية وعالمية، ويتلخص هدفه في المنطقة كنقيض لثورات الربيع العربي التي انطلقت قبل أكثر من 11 عامًا طلبا للكرامة والحرية، وأطاحت عدة أنظمة (تونس ومصر) وتعثرت في غيرها وخاصة في سوريا واليمن وليبيا، بفعل عوامل عديدة داخلية وخارجية، فعلى مستوى الداخل، حيث قوى الجيش والمخابرات التي تحولت خلال عقود من الحكم إلى "دول" خاصة لها مصالحها المستقلة وامتيازاتها، إضافة لنخبة سياسية واقتصادية تهددت مصالحها من جراء الثورات تلك، وخارجيا، بفعل سياسة الولايات المتحدة المترددة تجاه المنطقة، وتحويل انتباهها إلى مناطق أخرى تحسبها حيوية أكثر لمصالحها، وهو ما وفر فرصة جيدة لروسيا، فرصة التقطها بوتين وقرر التدخل المباشر ليغير اتجاه المنطقة من ربيع أمل فيه الناس الانتقال إلى الحرية والكرامة إلى شتاء يكرس القمع والاستبداد.

تعود بداية تشكل هذا المحور إلى العام 2013، بعد تخلي أوباما عن خطه الأحمر مقابل الصفقة مع روسيا التي قضت بتسليم سلاح النظام الكيماوي بعد قصف الغوطة، تلك الصفقة التي كانت نقطة التراجع والتحول في السياسة الأميركية، إذ تراجعت الولايات المتحدة عن مطلب أوباما الشهير بضرورة رحيل الأسد والاكتفاء بتغيير سلوكه. أفقد هذا التغيير مصداقية الولايات المتحدة للوفاء بوعودها، وأضعف هيبتها حتى أمام حتى الدول الشريكة لها. تبع ذلك التراجع سعي الإدارات الأميركية الثلاث الأخيرة إلى تقليص الالتزامات العسكرية في المنطقة والاكتفاء بالتركيز طويل الأمد على "مكافحة الإرهاب"، وهو الأمر الذي أدى إلى الحد من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وجعلها أخيرًا ساحة نشاط للمستبدين. شجعت تلك السياسة بوتين على التدخل عسكريًا في سوريا بشكل مباشر في نهاية أيلول 2015 وقبله بعام ضم شبه جزيرة القرم، هذا التدخل الذي قلب الموازين لصالح نظام الأسد، وقدم نموذجًا "صادقا" لدعم المستبدين في المنطقة.

آخر إنجازات ذلك المحور، الانقلاب الذي قاده الرئيس قيس سعيّد في تونس، التي عرفت أولى نجاحات الربيع العربي

وأولى نجاحات عودة الاستبداد كانت في مصر، حيث مصالح الجيش ليس فقط كمؤسسة عسكرية، وإنما كمؤسسة اقتصادية ذات امتيازات كبيرة، والاستقطابات الكبرى ذات الطابع الإيديولوجي بين التيارات الديمقراطية والعلمانية والنهج السياسي الإخواني في قيادة الدولة، إضافة للتحريض الخليجي ضد قيادة الإخوان لأكبر بلد عربي كمنافس على زعامة العالم العربي الإسلامي، حيث دفع السيسي إلى القيام بانقلابه في تموز 2013 وتسلّم العسكر لدفة القيادة والانقلاب على مطالب الشعب، ليشكل بذلك نقطة ارتكاز وثقل كبيرة لتشكيل محور الاستبداد. ومعروف أن هذا الانقلاب لاقى الدعم من روسيا وإسرائيل وعدة دول عربية، أهمها الإمارات والسعودية، بينما لم تدينه الولايات المتحدة.

وآخر إنجازات ذلك المحور، الانقلاب الذي قاده الرئيس قيس سعيّد في تونس، التي عرفت أولى نجاحات الربيع العربي، الذي أعطى الأمل لكثير من الشعوب العربية بالتحرك ضد أنظمتها الاستبدادية، حيث علّق عمل البرلمان وأغلقه، وأقال رئيس الوزراء واعتقل من ينتقده، حتى من النواب والصحفيين، واحتكر جميع الصلاحيات، حتى القضائية، وتصرف بطريقة جعل فيها كل مؤسسات الدولة مرتبطة به، بل يتخيل أنه هو الدولة، حيث يسعى في ظل صمت المؤسسة العسكرية والأمنية اللتين وقفتا على الحياد في ثورة التونسيين نهاية عام 2010 ضد بن علي، والدعم من النخب "العلمانية" في ثأرها الإيديولوجي من حركة النهضة، وتشتت قوى المعارضة ليكون الحاكم المطلق على طريقة العصور الوسطى، بطريقته السمجة بإصدار المراسيم وإلقاء التصريحات باللغة الفصحى، حيث وصف معارضيه مؤخرا بـ "الأوس والخزرج"، فإما البقاء والخضوع، أو الهجرة. 

أصبحت أهداف هذا المحور واضحة، وهي وأد الربيع العربي بالكامل، والعمل على تكريس الاستبداد من دون مقابل، وإخضاع الشعوب من خلال القمع العاري. فعدا عن تدمير سوريا وإدخالها في مرحلة من التفتيت المرعب، نجح هذا المحور أيضًا في إجهاض ثورة السودان عام 2018 من خلال دعم العسكر في الانقلاب على مطالب السودانيين في الحرية. وفي تلك الأثناء، كانت إيران، تعزز نفوذها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، التي لعبت دورا كبيرًا في دعم نظام الأسد، وتفتيت اليمن، وإخضاع ثورة العراقيين في تشرين الأول 2019، واللبنانيين في العام نفسه، حيث أصبحت في النهاية طرفًا موازيًا لمحور الاستبداد يتصارع معه حول تقاسم النفوذ في المنطقة، ويتفق معه على تكريس الاستبداد.  

يقود هذا المحور اليوم محاولات إعادة نظام الأسد إلى الحظيرة العربية، وحتى إلى المجتمع الدولي في ظل غض الطرف من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والاكتفاء بتصريحات من الولايات المتحدة أنها لا تشجع مثل هذه العملية، من دون الاهتمام بمحاسبة المسؤولين السوريين على جرائمهم المروعة التي قضت على حياة مليون إنسان، ولا بحل مشكلة اللاجئين، التي يستخدمها النظام السوري كوسيلة ضغط لتسريع عملية التطبيع، وبهذا تتكرس حالة جديدة من دعم الاستبداد، تحت حجة إبعاد الأسد عن النفوذ الإيراني، وتحقيق الاستقرار المزعوم، من دون أن يدركوا هشاشة هذا الترتيب القائم على الإخضاع فقط، والذي يمكن أن يتصدع في أي لحظة. فالنظام الاستبدادي الجديد الذي يتأسس في المنطقة لن يكون مستقرًا، لأن القمع المستمر والظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة التي أدت لثورات 2011 ما زالت مستمرة، بل تفاقمت.

يمثل النظام الاستبدادي المنتشر في المنطقة حكاية انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة والتحولات الجيوسياسية التي نتجت عنه، وانكسارات ثورة الربيع العربي

مؤخرًا، مع غزو روسيا لأوكرانيا، انحازت أطراف هذا المحور بكل وضوح إلى جانب بوتين، فرغم علاقات ممالك الخليج القوية مع الولايات المتحدة واعتمادها شبه الكامل عليها في حمايتها، إلا أنها "تجرأت" على رفض طلبها بزيادة إنتاج النفط للتقليل من آثار الحرب هذه على أسعاره، كما رفض قادة السعودية والإمارات مكالمة الرئيس جو بايدن، وعملت على إقامة علاقات "بديلة" مع الصين وروسيا كرّدٍ على التحولات في السياسة الأميركية تجاه المنطقة وانتقاداتها لحكامها، ولرؤية بوتين كصديق وفي داعم للاستبداد من دون شروط. وكذلك إسرائيل، التي لم تعلن عن موقف يدين غزو روسيا. 

يمثل النظام الاستبدادي المنتشر في المنطقة حكاية انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة والتحولات الجيوسياسية التي نتجت عنه، وانكسارات ثورة الربيع العربي. ذلك الانسحاب الذي أدى إلى الحد من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وفتح الباب أمام روسيا لتملأ الفراغ، وأمام القوى الإقليمية مثل إسرائيل وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات لتلعب أدوارًا خارج حدودها. فالإمارات العربية المتحدة، التي كانت ذات يوم دولة "شيكات" مصرفية، أصبحت الآن لاعبًا مؤثرًا في مصر وسوريا وليبيا والسودان وتونس واليمن، وتقدم الدعم المالي والسياسي للحكومات الاستبدادية وحتى الميليشيات. ويجب ألا يطمئن المستبدون إلى هذا الحال، فالوضع يشير إلى حالة من عدم الاستقرار يمكن أن تنفجر في المستقبل، وهذا يتوقف على نتائج غزو أوكرانيا، فانكسار بوتين، رأس الحيّة، يمكن أن يكون بداية لفرط هذا المحور، بل لزواله، وبداية خلاص السوريين.