محنة اللاجئين كبار السن

2021.09.29 | 06:05 دمشق

55efebb9c4618879498b45af.jpg
+A
حجم الخط
-A

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وحتى بعد ذلك، كانت أحلام السفر والهجرة تراود كثيرا من الشبان في سوريا، وغيرها من البلاد العربية التي يضيق حالها بأحلام الشباب وخاصة المتعلمين منهم، الباحثين عن فرص مجدية للعمل وشق طريقهم في الحياة.

وبطبيعة الحال، لم تكن فرص السفر متاحة أو هيّنة، بسبب ضيق الحال، وعدم انتشار ثقافة الهجرة إلى أوروبا على غرار بلدان المغرب العربي، حيث غالبية الفرص المتاحة آنذاك تكون باتجاه دول الخليج العربي بحثاً عن فرصة عمل في أي قطاع بما يؤمن دخلا معينا، هو غالبا أضعاف ما يدره أي عمل وظيفي في سوريا، لتنتهي هذه الرحلة في غضون سنوات بجني بعض المال الذي سوف يستثمر في شراء منزل أو سيارة أو افتتاح مشروع تجاري صغير.

مشاريع السفر والهجرة للشباب الطموح آنذاك، تحولت اليوم الى هاجس لـ "الطفش" من البلاد، بالنسبة لأغلب العائلات، وليس الشباب فقط، حيث غالبية الناس إما تخطط لمغادرة البلاد أو يراودهم هذا الحلم، وذلك بحثا عن الحياة ذاتها، وليس رفاهية الحياة، كما كان الحال سابقا. 

مشاريع السفر والهجرة للشباب الطموح آنذاك، تحولت اليوم إلى هاجس لـ "الطفش" من البلاد، بالنسبة لأغلب العائلات، وليس الشباب فقط

والفارق بين الحالمين بالسفر سابقا، والمغادرين هذه الأيام وفي السنوات الأخيرة، أن مهاجري اليوم هم غالبا بلا أحلام أو طموحات، بل أشبه بالمقتلعين من جذورهم عنوة، خاصة بالنسبة لمن تجاوز الأربعينيات أو الخمسينيات من عمرهم، ممن ظنوا أنهم أنجزوا قسطاً وافراً من رسالتهم في الحياة، وابتنوا منزلا ووصلوا إلى قدر من الاستقلال في حياتهم، وباتوا يستعدون للتقاعد أو لبدء مشروع صغير لإسناد معيشتهم بعد التقاعد، وفجأة بات عليهم ترك كل ذلك، وبدء حياة جديدة وسط مجتمع غريب عنهم، يجهلون لغته، وقوانينه وعاداته، بعيداً عن أهلهم وأصدقائهم وما اعتادوا عليه خلال عقود من الزمن.

إنها بداية قسرية من الصفر لمن بلغوا أرذل العمر، أشبه بمعركة يخوضونها بلا سلاح، فتتقاذفهم الريح ذات اليمين وذات الشمال حيث لا أرضا صلبة يقفون عليها، ولا حائطا متماسكا يستندون إليه، يحتاجون للمساعدة لإنجاز أصغر الأشياء، بعد أن كانوا يتدبرون أمرهم في بلادهم بما اكتسبوه من خبرات ومعارف. إنهم مجرد أرقام بين أفواج اللاجئين، لا أحد يعترف أو يريد أن يعرف قدراتهم وخبراتهم التي غالبا لا قيمة لها في مجتمعهم الجديد، حتى من كان صاحب حرفة أو صنعة، يحتاج إلى دورات تدريبية وشهادات لكي يتم الاعتراف بحرفته والسماح له بمزاولتها. إنهم في بلاد لا تعترف إلا بالأوراق والثبوتيات والشهادات التي مصدرها البلد نفسه الذي يقيمون فيه، وعليهم أن يثبتوا أنفسهم وجدارتهم من خلال القوانين والأنظمة المحلية، وهذا تحد صعب لمن لا يعرف لغة البلاد ولا قوانينها، واعتاد على "تدبير" أموره بالخبرات العملية أو بالفلهوة والمعارف والتواصلات الشفهية. هنا يستيقظ المر كل يوم ليجد في علبة بريده كومة من الفواتير والرسائل التي تنظم تعاملاته وتخبره بمواعيد الجهات التي عليه التواصل معها، وغالبا ما تتراكم الأوراق التي قد لا ينجح اللاجئ المستجد في استيعابها كلها، ليجد نفسه في ورطات مع هذه الجهة أو تلك لأنه لم يجاوب على الرسالة الفلانية أو لم يشرح وضعه عبر اتصال هاتفي بسبب عدم معرفته باللغة. 

إنها بداية قسرية من الصفر لمن بلغوا أرذل العمر، أشبه بمعركة يخوضونها بلا سلاح، فتتقاذفهم الريح ذات اليمين وذات الشمال حيث لا أرضا صلبة يقفون عليها، ولا حائطا متماسكا يستندون إليه

وهذا الانتقال من بلاد الخبرات العملية والتواصلات الشفهية إلى بلاد الشهادات والثبوتيات والتواريخ الدقيقة، يسبب غالبا إحباطا مضاعفا للاجئ الغريب الذي لا يكاد يجد وسيلة للتفاهم مع محيطه إلا باستخدام لغة التشكي والتظلم، وهي لغة غير مجدية غالبا أمام موظف يلتزم حرفيا بالقوانين الناظمة لعمله، ولا يتحمل مسؤولية الخروج عنها. 

وحين يشعر هذا اللاجئ بالدوار والغثيان من هذه الأجواء الورقية، لا يجد من يشكو إليه همه سوى الأهل والأصحاب البعيدين عنه في بلده الأصلي أو في بلدان اللجوء الأخرى، والذين إما لا يفهمون شكواه أو عندهم شكاوى مماثلة ويحتاجون بدورهم لمن يشكون إليه.

تلك محنة حقيقية للاجئين الكبار في السن والذين يجدون صعوبة بالغة في الاندماج بمحيطهم الجديد بسبب عدم قدرتهم على اكتساب اللغة، وبالتالي تكوين صداقات جديدة أو ممارسة عمل ما يناسب إمكاناتهم وقدراتهم غير المعترف بها غالبا في مجتمعهم الجديد.

وطبعا، الحال أفضل بالنسبة لصغار السن ممن سيجدون غالباً ما يفعلونه، حيث سيكون أسهل عليهم اكتساب اللغة، وإيجاد عمل ما سواء مما مارسوه سابقا، أو جديد كليا مما يعرض عليهم أو يرونه مجديا.

والخلاصة أن اللاجئين اليوم، وتحديدا من تخطوا الأربعين، ليسوا مهاجرين أو عشاق سفر كما كان عليه الحال في العقود الماضية، بل غالبا مقتلعون من جذورهم، وصلوا إلى بلاد غريبة عنهم، فرصتهم في الاندماج ضعيفة، ويعتاشون على ذكريات ماضيهم، بما في ذلك زحمة الأفران والشوارع المتسخة ورشاوى شرطة المرور، وهي أحلى عندهم من هذا النظام الرتيب القاتل ومن المولات الحديثة والشوارع النظيفة والمناظر الخضراء التي لا يستشعرون جمالها، وما زالوا يحنون إلى ظل شجرة زيتون يابسة أو دالية عنب في قريتهم الأصلية. 

والخلاصة أن اللاجئين اليوم، وتحديدا من تخطوا الأربعين، ليسوا مهاجرين أو عشاق سفر كما كان عليه الحال في العقود الماضية