محكومون بسوريا الأسد

2021.02.04 | 00:25 دمشق

3.jpg
+A
حجم الخط
-A

في إحدى أشهر مقابلاتها في السنة الأولى للثورة، قالت الممثلة الراحلة مي سكاف ردا على سؤال ما الذي دفعك للوقوف إلى جانب الثورة والثوار؟ قالت: ( لا أريد لابني أن يحكمه أيضا ابن بشار الأسد)، يومها بدا كلام الراحلة مي بقدر قوته بقدر غرابته واستحالته، إذ كان حافظ بشار الأسد طفلا، ومهما شطح الخيال بأحد منا فلم يكن من الممكن تخيل أن يحصل لسوريا شيء كهذا، يبدو أن الراحلة مي سكاف كانت تملك نبوءتها الخاصة، أو تلك النابعة من حدسها الوطني السوري الذي جعلها ترى مصير سوريا باكرا.

تتوالى الأخبار من سوريا عن حملة ترويجية إعلامية لتبييض صورة بشار الأسد قبل الانتخابات الرئاسية في منتصف العام الحالي، يقال إن الحملة تتضمن ظهورات لاحقة للرئيس وزوجته، في أماكن مختلفة من سوريا (المفيدة)، وإنها أيضا تتضمن محاولات إظهاره حريصا على الاهتمام بالوضع المعيشي المتردي، على مبدأ أن (الرئيس كويس بس يلي حواليه .....)، وتتضمن أيضا تهيئة عدد من المرشحين الصوريين للرئاسة، لإظهار الديمقراطية السورية بأزهى صورها، وهو ما يحدث حاليا فعلا، إذ أعلن أكثر من شخص لا يعرفه أحد عزمه على (خوض الانتخابات الرئاسية) القادمة، طبعا لا داعي للحديث عن الديمقراطية السورية، فالسوريون والعرب والعالم أجمع، اختبروها جيدا منذ سبعينيات القرن الماضي، وظهرت أكثر وضوحا وتجليا في السنوات العشر الماضية التي انتخب فيها النظام شعبا جديدا بعد أن أسفرت العملية الديمقراطية المهولة عن فشل الشعب السوري في الاحتفاظ بمكانه في سوريا، فتشرد من تشرد وقتل من قتل ونفي من نفي وهاجر من هجر وأخفي في المعتقلات من أخفي.

ولتتفوق العملية الديموقراطية على أعتى الديمقراطيات في العالم كان لابد من تدمير أكثر من نصف سوريا عن بكرة أبيها! هكذا ستأتي المرحلة الرئاسية الجديدة ببلد جديد لا يمت بصلة للبلد السابق، هل حصل سابقا أن وصلت الجمهوريات الديمقراطية إلى هذا المستوى من النجاح في تطبيق أسس الديمقراطية والتغيير ( الإيجابي)، في جمهورية أو دولة ما ؟!

هل يعتقد أحد أن ما يحصل في سوريا يحصل بمعزل عن موافقة المجتمع الدولي؟! أظن أن هذا الاحتمال هو آخر ما يمكن أن يصدقه أحد ما، بقاء النظام، بكل جرائمه، حتى الآن، لم يتم إلا برضا وموافقة من المجتمع الدولي كله دون استثناء، وعلى رأسه طبعا الولايات المتحدة الأميركية، بكل الرؤساء المتعاقبين عليها، (لمن كان من السوريين مؤيدا لترامب أكثر من اليمين العنصري الأميركي يرجى إخبارنا ماذا فعل ترامب في اتجاه تغيير النظام السوري أو خدمة الشعب)، أيضا لمؤيدي بايدن حاليا، وقبله أوباما؟! رغم أهمية قانون قيصر ولكن هل غير شيئا في الوضع السوري، سوى تقديم الذريعة للنظام وحلفائه بأن الوضع المعيشي والخدمي والانهيار الاقتصادي في سوريا، والذل الذي يعيش فيه السوري داخل بلده سببه العقوبات التي فرضها قانون قيصر.

هل يعتقد أحد أن ما يحصل في سوريا يحصل بمعزل عن موافقة المجتمع الدولي؟! أظن أن هذا الاحتمال هو آخر ما يمكن أن يصدقه أحد ما

هل غيرت العقوبات وزيرا واحدا؟! هل منعت دولة واحدة من أن تعيد تطبيع العلاقات مع النظام السوري؟! أعادت دولة الإمارات فتح سفارتها في سوريا وطبعت مع النظام السوري قبل تطبيعها مع إسرائيل، هل يعتقد أحد أيضا أن تهافت تطبيع العرب مع إسرائيل يحدث بمعزل عن سوريا؟! إسرائيل تسرح وتمرح في السماء السورية، وقريبا سوف يتم الإعلان الإسرائيلي عن التوقف عن الغارات الجوية شبه اليومية، يليه الإعلان عن معاهدة سلام مع النظام السوري، كل ما يحدث في سوريا وفي المحيط العربي والإقليمي ينبئ بذلك. الأعمى هو من لا يريد رؤية هذا.

شاهدت قبل يومين فيديو لحفل زفاف شابة سورية من (نيقولاي) وهو خمسيني روسي يعمل في سوريا، ثمة زفافات عديدة من هذا النوع حدثت في سوريا، سوريات تزوجن من كل الجنسيات الفاعلة في الأرض السورية، يا سلام، سوريا المفيدة  القادمة سوف تكون خليطا غريبا عجيبا، الأم سورية أما الأب فيمكنكم أن تعددوا خلفي: روسي، إيراني، تركي، عراقي، لبناني، شيشاني، سعودي، تونسي، مصري، أميركي، مصري، كويتي، أوروبي، وقريبا إسرائيلي، أجيال مهجنة جديدة سوف تظهر في سوريا تشبه ماهي عليه سوريا اليوم، وأحكي تماما عن الأجيال التي سوف توجد في المساحة الجغرافية المسماة سوريا، ثمة تهجين آخر يحدث خارج سوريا، أجياله سوف تكون مختلفة بسبب اختلاف مستوى الحياة وأمانها وحقوق مواطنيها والقاطنين فيها.

تمر هذه الأيام ذكرى مجزرة حماة، التي قتل فيها خلال أقل من ثلاثة أيام أكثر من ثلاثين ألف سوري، وقتها لم يكن هناك إعلام ينقل الخبر إلا إعلام النظام، الذي قدم روايته للسوريين، وسميت المجزرة بالأزمة حتى الآن، قيل لاحقا: لو أن السوريين عرفوا وقتها بما حدث لهبوا هبة واحدة ضد النظام، لكن التعتيم على الحدث أعطى صورة مغالطة عنه للسوريين وللرأي العام العالمي الذي اقتنع برواية النظام، عظيم، ماذا بخصوص السنوات التسع الأخيرة؟ كان السوريون يموتون على الهواء مباشرة، وسوريا تتدمر على الهواء مباشرة، وصور عشرات آلاف القتلى تحت التعذيب على الهواء مباشرة، وصور الاحتلالات المتعددة لسوريا، (أيضا عدوا معي: روسيا، إيران، أميركا، إسرائيل...) التي تفتك بالسوريين على الهواء مباشرة، ما من مجال ليقول أحد إنه لا لم يسمع سوى رواية واحدة الآن، ومع ذلك هناك سوريون يرون أنه من الطبيعي التخلص من كل سوري لا يؤيد بقاء بشار الأسد، وآخرون يرون أنه من الطبيعي التخلص من كل من لايرى في دول الاحتلالات حليفا، لم تكن المشكلة إذا في الإعلام، وإنما فينا نحن، السوريين، الذين لم نكن شعبا واحدا ولا لمرة واحدة في تاريخ سوريا.

لا يمكن لشعب حقيقي أن يحصل فيه ما حصل للسوريين، لا يمكن لهذه الكراهية التي تصل حد التشفي بموت المختلف سياسيا أو المطالبة بقتله وسحله وفنائه ولو باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، أن تحدث في شعب طبيعي، على الوطنيين السوريين( الباحثين الاجتماعيين والسياسيين) مهمة اكتشاف هذا الخلل، الذي لا يكمن فقط في وجود الاستبداد الأبدي، ثمة أسباب أخرى حتما يجب تفكيكها لخلق مجتمع جديد ذات يوم.

أليس مستغربا أن تعود تسمية (الأحداث) حين يتحدث سوريو الداخل عما جرى خلال السنوات السابقة؟ حتى من كان مؤيدا للثورة تماما ومعروفا بمواقفه ضد النظام؟! أهو الخوف؟ أم التأثر بالسياق العام الذي يريد نسيان مفردة الثورة ورمزيتها كما تم في باقي دول الربيع العربي إلغاء رمزية الميادين والساحات التي جمعت البشر وقت الثورة، في سوريا ( أخذوها من قاصرها) وهدموا كل مكان نطقت فيه كلمة الثورة، دمروه عن بكرة أبيه، كعادتهم دائما في ديمقراطيتهم البهية خلال العقود السبعين التي حموا فيها سوريا.

تخيلوا أن تبقى عائلة واحدة تحكم بلدا لمدة سبعين عاما، والقادم يبدو أعظم، إذ إن سن حافظ "جونيور" حاليا عشرون عاما، وسوف يبقى والده مع الانتخابات القادمة على الأقل ست سنوات جديدة، سيكون بالإمكان وقتها تغيير الدستور مجددا لصالح حافظ "جونيور"، دستور سوريا أثبت أنه مرن جدا، لا يشبه دساتير الدول العتيقة، ومع الأجيال المهجنة القادمة سوف يكون حافظ جونيور خير حاكم للبلد لخير سلف حاكم للبلد.

ذات يوم قال الراحل سعد الله ونوس: (نحن محكومون بالأمل)، وبالمناسبة هو زوج خالة الفنانة الراحلة مي سكاف، التي أظنها تقول له الآن حيث هما معا: "نحن محكومون بسوريا الأسد إلى أبد الآبدين" ! أما الأمل فليس سوى مفردة من ثلاثة أحرف تصلح لتكون اسما لمولودة، سوريا جديدة، ولدت في بلادـ لا تشبه سوريا بشيء، بلاد تحترم إنسانيتها وكيانها القادم.