محاكمات كوبلنز والعبث بالذاكرة الثورية

2021.03.13 | 05:44 دمشق

2021-02-24t093111z_1925139017_rc2xyl9e4mkb_rtrmadp_3_syria-security-germany.jpg
+A
حجم الخط
-A

تستمر محاكمة الضابط المنشق أنور رسلان في الدعوى المرفوعة ضده بتهم اعتقال وتعذيب مدنيين سوريين، بينما صدر حكم بالسجن على صف الضابط المنشق إياد الغريب أربع سنوات ونصف مع إمكانية الطعن وتخفيف العقوبة إلى سنتين كان قد قضاهما في السجن حتى لحظة صدور الحكم.

لن نتطرق هنا للمسار الحقوقي للقضية، حيث المحاكمة في "ألمانيا"، وجرت عدد من الجلسات علناً وبإشراف من بعض المنظمات الحقوقية رغم عدد من التساؤلات والتي لم تتطرق لها المحكمة من قبيل الانشقاق وتأثيره على الجرم القضائي وتخفيف العقوبة، وهل يؤخذ بعين الاعتبار انعدام إمكانية الانشقاق أو تأخره بضعة أشهر لتأمين العائلة. كما لم تفصل المحكمة في نتائج التشجيع على الانشقاق آنذاك، وهل يمكن (من الناحية القضائية) تجريم المتهم بعد أن شجعناه على الانشقاق في فترة أعلن الشعب السوري صراحة استعداده للمسامحة مقابل المخاطرة في الانفكاك عن تلك المنظومة الإجرامية؟!!. لكننا سنتكلم عن طريقة تعاطي المنظمات الحقوقية السورية، والتي تغافلت سهواً أو عمداً عن حقائق شوهت القضية وأساءت إلى المدعو إياد الغريب وشوهت شخصه وقضيته، مما أساء إلى الدعوى ومفهوم العدالة الذي يطمح إليه السوريون "مواطنون وضحايا" وشكك في سلامة وجدوى وأهداف عمل تلك المنظمات.

"خرج السوريون في مظاهرات سلمية، وتم قتلهم بدم بارد" أصبحت مسلمة. ولكن يبدو أن بعض الناشطين يتجه إلى نسيان أن السوريين أنفسهم أبدوا استعدادهم للمسامحة لمن يتوقف عن قتلهم وينفك عن آلة القتل الأسدية.

خرج السوريون في مظاهرات خصيصاً لتشجيع الانشقاق وتحية المنشقين كأبطال في لحظة تاريخية كان الانفكاك عن أخطبوط السلطة عملاً خطراً بكل المقاييس، لا يتعلق بموت صاحبه فقط، ولا باعتقال أفراد عائلته ابتداء من الوالد ولا ينتهي بزوجته وأولاده بل بالإجابة عن السؤال الأهم عند المنشق: ما مصيري، وأين أذهب، وما مصير عائلتي وأطفالي؟!!. ولأن هذا الشعب البسيط يملك حساسية عالية تجاه العدالة (وإن كان لا يستطيع أن يعبر عنها بألفاظ قانونية) إلا أنه مارسها بصدق وصبر عظيمين: عمل على تأمين المنشقين وعائلاتهم حتى أوائل عام 2013، متفهماً ظروف تأخر بعضهم عن الانشقاق. ومتحملاً مخاطر تأمينهم واحتضانهم. ومتجاوزاً ماضيهم والأسئلة غير المجدية عن أفعالهم قبل الانشقاق. فلم يحدث أن تم تأمين منشق، ثم مساءلته عن مسؤوليته الجنائية السابقة أو حتى تعييره بها.

لم يَغبُنِ السوريون الحقَّ المعنوي للمنشق، فكان يجاهر بانشقاقه، في تعبير واضح أنه يتبع الإرادة الشعبية، وبالتالي ينفذ قرار الشعب: الانشقاق مقابل المسامحة

يمكن أن نعيد التذكير في هذا السياق، أن الانشقاق كانت خطوة غاية في الصعوبة والخطورة. بدايةً فإن فكرة الانشقاق نفسها كفيلة بإثارة الرعب في ذلك الوقت، ثم تالياً الإجابة على السؤال الأخطر والحاسم: مع من أتواصل لترتيب هذه الخطوة؟ حيث هناك كثير من عناصر الأمن والجيش تم اعتقالهم أو إعدامهم ميدانياً أمام أقرانهم نتيجة اللجوء لجهة خاطئة، وبالتالي معرفة السلطة بنية الانشقاق.

أيضاً لم يَغبُنِ السوريون الحقَّ المعنوي للمنشق، فكان يجاهر بانشقاقه، في تعبير واضح أنه يتبع الإرادة الشعبية، وبالتالي ينفذ قرار الشعب: الانشقاق مقابل المسامحة. وأصبح الانشقاق جزءا من الضمير الجمعي السوري. وعومل المنشق كـ "بطل" لا كـ "متهم" نتيجة اتخاذه ذلك القرار الشجاع بكل المقاييس "في ذلك الوقت".

أواخر عام 2020 تداول الإعلام قضية كوبلنز، وأعلن القائمون عليها أن "قطار العدالة انطلق" ولن يتوقف.. وسيطول كل "رؤوس الإجرام".... جميع تصريحات الحقوقيين السوريين القائمين على القضية تتمحور حول "مجرمي حرب" موجودين في أوروبا وتتم ملاحقتهم.

في فبراير 2021 صدر أول حكم، صرحت به المنظمات الحقوقية السورية المعنية بالملف، ومنه أخذت وسائل الإعلام ذلك الوصف: "اعتقال مسؤول في الاستخبارات السورية وتقديمه إلى المحاكمة" و"محاكمة مسؤول سابق في الاستخبارات السورية". في تصريح واضح إلى جهود تلك المنظمات في القبض على شخص ما يزال يوالي نظام الأسد ضمن جهود امتدت لسنوات، وجه فيها الأستاذ المحامي أنور البني نداء إلى جميع السوريين للمساعدة وتقديم المعلومات والشهادات اللازمة. ثم وبعد صدور الحكم، وصفه: بـ "التاريخي؛ لأنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها شخص من نظام لا يزال في السلطة".

لغير المتابع للقضية، فإن عبارة "لا يزال في السلطة" ملتبسة، وتوحي أن المتهم كان ما يزال في السلطة حتى تمت محاكمته. كما أن توالي التصريحات عن قطار العدالة أعطى الضحايا وذويهم معلومات عن قرب جر الأسد وضباطه إلى ساحة العدالة. ولكن مع تداول الإعلام الغربي للحقائق وتوالي التصريحات من المراقبين والصحفيين الألمان، تبين أن المتهم هو: إياد غريب، صف ضابط (مساعد) كان يعمل مدرب لياقة بدنية في إحدى الوحدات التابعة للأمن السياسي في نجها، وتم استدعاؤه لقمع المتظاهرين. انشق مبكراً في خطوة جريئة وخطيرة باعتبار أنه انشق من فرع أمن وفي فترة أواخر عام 2011، حيث لم يكن طريق الانشقاق سالكاً بعد. ولم يكن الناشطون قد تمرسوا على تأمين المنشق وعائلته، وطرق التهريب.. إلخ.

على هذا تم طرح كثير من الأسئلة عن الواقعة والشخص، وجدوى مثل تلك المحاكمات، وصوابية نعت شخص مثل إياد الغريب بالمجرم، وأخلاقية التعدي على إرادة الشعب الذي منحه الأمان عام 2011. ولكن المفاجأة أن المنظمات الحقوقية ونشطاءها رفضوا تلك التساؤلات المشروعة، بل ووصلوا حد تخوين كل من يشكك في سلامة وجدوى عملهم. تذكرنا مثل تلك التصريحات بأداء المعارضة السياسية التي تجاهلت مخاوفنا وتساؤلاتنا واستخفت بدماء الضحايا، وكانت تعلن بكل ثقة أن النظام الدولي قد فض يده عن نظام الأسد، وبذلك اندفع الشعب السوري إلى أقصى مواجهة، وانتفت أي "تسوية ممكنة" بين النظام وقوى الثورة الداخلية تحفظ دماء السوريين، ويولد "إمكانية حل" ضمن الممكن (وهنا أقولها على سبيل الاحتمال فقط). لنكتشف فيما بعد، أن المعارضة السياسية تعيش في عالمها الخاص، جاهلة تماماً بالسياسة والقوى الدولية والإقليمية المتصارعة، وتركتنا ضحايا ذلك التصارع. خسرت المعارضة وخسرنا وخسرت سوريا مجتمعة، والأهم خسر السوريون ثقتهم بقضيتهم. وأنا هنا لا أتكلم عن الناشطين الذين ما زالوا يجولون في أوروبا وتتنامى مكتسباتهم كلما علا صراخهم بشأن القضية السورية، وإنما أتكلم عن المواطن السوري العادي الذي فجر الثورة، ودفع ثمنها وحده.

يبدو أن المعارضة الحقوقية الحالية تسير على الطريق نفسه، حيث تجاوزت الممكن الحقوقي في أوروبا، وأوهمت الضحايا وذويهم أن الأسد وجنرالاته على طريق العدالة، لنكتشف أن كل هذا غير ممكن حقوقياً (حسب قانون الولاية القضائية نفسه الذي يعملون من خلاله)، وأن أول ضحية هو صف ضابط منشق باكراً أي أنه ينتمي إلى الشعب السوري. وأن هؤلاء الحقوقيين قد خذلوا الشعب السوري مرة أخرى بنقض عهد الأمان الذي أعطاه الشعب السوري للمنشقين عام 2011. ثم أخيراً لم يكن هناك ادعاء شخصي من أي ضحية، وإنما صدر حكم عام بناء على معلومات قدّمها طوعاً إياد الغريب نفسه بصفته شاهداً يريد المساهمة في كشف وفضح جرائم النظام!!

قسم كبير من السوريين شعروا بعد تكشف الحقائق بخديعة كبيرة، وأن تلك المنظمات تحاول بناء نجاحها ومراكمة مكتسباتها على حساب ضحايا آخرين اعتبرهم السوريون في زمن ما (2011ـ2012) أبطالا حقيقيين بانشقاقهم. الآن تحاول تلك المنظمات طمس تلك الحقائق، وتبخيس تلك التضحيات، وتشويه سمعة إياد غريب بذكر نصف الحقيقة والتغاضي عن النصف الآخر؛ وهو الخطوة المشرّفة التي قام بها إياد غريب وأمثاله في تلك اللحظة الفارقة من عمر الثورة.

إياد غريب اغتيل معنوياً بتضخيم الحكم القضائي الخاص به على حساب الحكم الأخلاقي كمنشق من أشرس وأعنف مافيا في العصر الحديث

ليست المشكلة في نقاش مدى مسؤولية إياد غريب الجنائية، وإنما في الإسقاط العمد لفعل "الانشقاق" والنتائج القانونية والأخلاقية المترتبة عليه، وهذا التجاهل مثل اغتيالا حقيقيا للضمير الجمعي للمجتمع السوري المغيب تماماً عن حسابات المنظمات الحقوقية. الضمير الجمعي يحترم المنشقين ويقدر تضحياتهم. في حين سلوك الجماعات الحقوقية الحالية يتجاوز تماماً هذا. ومحاولة تناسي أنها شجعت عليه يوماً ما دون التنبيه إلى أنهم سيحاكمون على ما اقترفوه سابقاً.

لا تتطابق دائماً الأحكام القضائية مع الأحكام الأخلاقية، خصوصاً في قضية عامة شائكة وحساسة وجديدة على القضاء الأوروبي. لكن مما لا شك فيه، أن إياد غريب اغتيل معنوياً بتضخيم الحكم القضائي الخاص به على حساب الحكم الأخلاقي كمنشق من أشرس وأعنف مافيا في العصر الحديث. ولكن هذه المرة أتى الاغتيال من الجهة ذاتها التي شجعته على الانشقاق عام 2011، لتغتال في عام 2021 "إياد البطل عام 2011" في عيون وضمير جميع السوريين الذين هتفوا له في المظاهرات وقدموا التحية له في ذلك الوقت.