مجددا.. البحث عن الرافعة السياسية الوطنية الفلسطينية

2021.05.22 | 05:41 دمشق

20210521_2_48392341_65366796.jpg
+A
حجم الخط
-A

أمام المشهد الفلسطيني المتطور وهبّة الشعب من النهر إلى البحر، هناك سؤال أساسي يُطرح في الأذهان، أو فكرة تستعيد حقبة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والسؤال: "ماذا كان أبو عمّار ليفعل لو كان موجوداً؟"

لا يرتبط السؤال بالشخص ولا بالاسم، إنما بالرمزية التي يمثّلها، وخبرته وباعه الطويل في معرفة إدارة التوزانات السياسية واللعب على متناقضات متعددة لتعزيز موقعه السياسي وقدرته على التفاوض.

لو كان ياسر عرفات هنا، لكان أكثر من أجاد تحسين الشروط السياسية في ضوء الهبّة الفلسطينية

الانتفاضة الأولى أدت إلى نشوء الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية، وفرضت مسلّمة تاريخية لا تنازل عنها تتعلق بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس. والانتفاضة الثانية فتحت الطريق أمام المبادرة العربية للسلام القائمة على أساس حلّ الدولتين، لو كان ياسر عرفات هنا، لكان أكثر من أجاد تحسين الشروط السياسية في ضوء الهبّة الفلسطينية التي أذابت كل الحدود، أكدت الاستنهاض الفلسطيني الدائم انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على الأرض والتشبث فيها، وبالتالي الحفاظ على الهوية.

لماذا تلك المقدّمة؟ لأن أكثر ما خسرته فلسطين، هو الجسم السياسي القادر على عدم إهدار الدماء والتضحيات والنضالات في الصراعات البينية، بل على فرض وقائع سياسية يستفيد منها الفلسطينيون ومنطق الدولة الفلسطينية. ما تحتاجه فلسطين حالياً، هو نفسه ما احتاجته كل الشعوب العربية التي انخرطت في ثورات الربيع العربي، أي ما يشبه منظمة التحرير الفلسطينية المكتملة التبلور في مشروعها السياسي والتكامل بين مختلف مكوناتها، بالتوازي مع إجادة التنسيق وتوزيع الأدوار بين السياسة والأمن والعسكر لجعل كل هذه الاستثمارات تصب في صالح الشعب الفلسطيني ونضالاته. هذا هو بالتحديد ما تفتقده فلسطين اليوم، في ظل صراعات القوى والمجموعات والأحزاب والفصائل، أو صراع فتح وحماس التاريخي والمديد، والذي يفسح المجال أمام جهات خارجية عديدة تعمل على الاستثمار بهدر دم الفلسطينيين وتضحياتهم في سبيل تحقيق أهداف سياسية، أو اتفاقات إقليمية أو نووية أيضاً. وأكثر من أجاد الاستثمار في ذلك هي إيران، وتحديداً منذ العام 2006 بعد حربي غزّة ولبنان، والعام 2008، وصولاً إلى العام 2014 ما قبل الاتفاق النووي، وحالياً في العام 2021 أيضاً تزامناً مع مفاوضات الاتفاق النووي.

ليست إيران وحدها من يتحمّل المسؤولية، إنما جهات فلسطينية أخرى بينها منظمة التحرير، وجهات عربية تريد الاستثمار في أي حدث، إما لإضعاف حركة حماس أو تسجيل  مزيد من الاختراقات في صفوفها، للدخول أكثر إلى غزة، أو جموح حماس لاكتساح الضفة الغربية شعبياً وانتخابياً مقابل ضرب منظمة التحرير ورئيسها محمود عباس الذي أيضاً يتحمل جزءاً واسعاً من المسؤولية، وسيخرج أكثر المتضررين والخاسرين من كل التطورات التي حصلت، سواء داخل أراضي الـ 48 أو معركة غزة، أو حتى في القدس واتساع رقعة التحركات الفلسطينية في مختلف الأراضي، وخصوصاً داخل "إسرائيل".

لا حاجة للدخول في كل هذه التفاصيل التي تخرّب كل النضالات الفلسطينية وتعمل على التقليل من قيمتها وقدسيتها على مذابح الطموحات السياسية التي لا تستثمر بغير الشرذمة. أصبحت إدارة اللعبة في مكان آخر، حتى حماس التي أدارت المعركة وأمسكت بخيوطها في غزة، لن تكون قادرة على فعل ذلك في المناطق الأخرى، لأن القرار هو للشعب، الشعب الذي حمى وجوده وتشبث بأرضه وحافظ على هويته خصوصاً داخل أراضي الـ 48 والذي انتفض وثار في أكثر المؤشرات خطورة والذي أدى إلى اهتزاز الكيان الإسرائيلي من الداخل، وصولاً إلى حدّ التخوف الكبير الذي وصف ما يجري بالحرب الأهلية بلسان الإسرائيليين، علماً أن الفلسطينيين قاوموا بشكل أعزل وبلا سلاح.

المشكلة الأساسية التي  تهدد إسرائيل هي مشكلة ديمغرافية على المدى البعيد، وليست المعارك العسكرية

أكثر ما تحتاجه فلسطين اليوم هو إعادة إنتاج منظمة التحرير الفلسطينية ولو بجسم وشكل وآلية وإدارة مختلفة، لأن الحاجة الضرورية هي لجسم سياسي فلسطيني قادر على الجمع لا التفريق، ومتمكن من الموازنة بين السياسة والعسكر. أهمية ما جرى في الداخل الفلسطيني يرتكز على مبدأ التشبث بالأرض، وعدم التفريط بالحقوق، إذابة الحدود، والانقلاب على خرائط تقسيمية أو تجزيئية كان يراد للفلسطينيين أن يطبّعوا معها لكنهم أبوا ونجحوا في إفشالها بالرهان على حيويتهم وبعد نظرهم الذي لطالما تعلّم منه العرب الصبر والاستمرار بالنضال.

المشكلة الأساسية التي تهدد إسرائيل هي مشكلة ديمغرافية على المدى البعيد، وليست المعارك العسكرية، إنما معركة سياسية اجتماعية ثقافية لا بد من إحسان إدارتها، وهذا أمر لا يحتاج فيه الفلسطينيون لمن يعلّمهم عليه ولا لإغداق النظريات والنصائح، وهنا التاريخ يشهد في أنهم أكثر من أنتج سياسياً وثقافياً، أدباً وشعراً، مقاومة ونضالاً، وكل من أراد في العالم العربي تعزيز وضعيته لجأ إلى الاستشهاد بهم والغرف من منهلهم. وليست هذه السطور هادفة إلى التنظير على الفلسطينيين، إنما نوع من الشكوى من الواقع القائم، في قراءة لماضيهم وتراثهم. بالعودة إلى المشكلة الديمغرافية، فإن الصراع أبعد من ذلك أيضاً، وهو التمسك بالهوية، وعدم التفريط بها، وبمشهد المصلّين في الأقصى، الذين يحمون الساحة بسواعدهم وليس بخطب الآخرين الذين يتحدثون عن اقتراب لحظة التحرير والصلاة هناك.

تلك المعركة الديمغرافية هي العنوان الأساسي في النضال على المدى الطويل، وهي التي تدفع إسرائيل للإذعان والقبول بالحد الأدنى بحلّ الدولتين، أو قد تدفعهم إلى الهجرة رفضاً لواقع اجتماعي غير مقبول بالنسبة إليهم، وهم أسياد الفصل العنصري وتنقية الأعراق الاجتماعية أو الاجتماعات البشرية. صمود الفلسطينيين لم يكن  نتيجة توازنات إقليمية ودولية، ولا نتيجة الصواريخ التي تطرح في أي لحظة على طاولة المفاوضات بين الدول والأمم، الصراع يبدأ من فكرة، فكرة الإيمان بالهوية. وهي هوية عمل كثر تهشيمها وضربها، لا سيما من الذين يدّعون الدفاع عن فلسطين وشعبها.

ولأن المعركة في أساسها الاستراتيجي هي ديمغرافية، وبما أن الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج أظهرت حجم التعاطف مع فلسطين والإيمان بها، فإنها ترتبط بشكل أساسي بما يجري في المنطقة المحيطة أو المجاورة، هنا أيضاً لا بد من العودة إلى المعادلة السورية والتي أريد من سحق الثورة السورية وتقسيم سوريا وتهجيرها في أكبر عملية ترانسفير ديمغرافي، أريد أن تشكِّل المدخل الأساسي للالتفاف على المعيار الديمغرافي في أفق الصراع. لأن من هجّر سوريا وسُمح له بالقيام بعمليات التهجير على مرأى العالم وبتواطؤ دولي كبير، كان يراد له أن يكون المؤسس لفكرة الالتفاف على التوازن الديمغرافي أولاً، وثانياً الممهد لخرائط التجزئة والتقسيم التي أريد لها أن تطبق في صفقة القرن، والتي أسقطها الفلسطينيون، وهذه تجربة يحتاج كل العرب إلى التعلم منها.