مثقفان عربيّان في إسطنبول

2021.11.20 | 03:03 دمشق

astnbwl.jpg
+A
حجم الخط
-A

بادر المثقف العربي زميله بالحديث عن تلقيه لـ إسطنبول، ضمن سياق الحديث عن أن معظم البشر، من حيث التعامل مع الأمكنة وسواها، يُقسَمون إلى نوعين:

  • شريحة تقايس تجاربها المعاصرة على ما سبق معها، تثق بتجاربها السابقة كثيراً، وغالباً ما تكون متحفظة تجاه الجديد!
  • وشريحة أخرى تحبُّ المغامرة، والنكهات الجديدة، وتعيش المعاصر.

 مدينة إسطنبول لا تحبِّذ النوع الأول من التلقي، وتحسب نفسها أنها لا تقبل التكرار، ولا شبيه لجمالها! وقبل أن يتابع، سأله زميله: هل تتحدث عن امرأة أو عن إسطنبول؟

الجغرافية والتاريخ وحروبهما فرّقتهما، كيف استطاعت عاصمة غير عربية أن تكون مكاناً مفتوحاً لاجتماع مثقفيْن عربييْن، لفظتهم مدنُهم، ومنعتهم عواصم عربية من اللقاء على أرضها. كانت شمس إسطنبول شاقة، وصعبة مثل حالة البلاد العربية، بدت المدينة تودّع صيفاً ثقيلاً، وصامتاً، تحاول أن تنفض عنها غبار "كورونا" سريعاً، تريد أن تنسى تلك المرحلة من عمرها، كحبيبة، لا تحبُّ لغة المجاز، واتخذت من اللحظات المتعِبة وطناً بديلاً لها، لا مكان للانتظار في قلبها، هو الآخر حبيبها، كشأن عاشقي المدن، لم يقتنع قلبُه بكلامها، أو بفعل حجارتها التي سدت أبوابها في وجهه، يتساءل: كأن عواصم الإمبراطوريات تميل إلى المرابطين على أسوارها، وتنكر عليهم أن يسكنوها!

لكسر جليد اللقاء الأول، كان المطبخ السوري مدخلاً للحديث عن الاهتمام بالتفاصيل، والتعبير عن البيئة، وأثر طريق الحرير وتعدد ثقافاته في ولادته.

تتوطد عرى اللقاء الأول بالحديث عن المصير السوري العراقي المتقارب، ليس بالتدخلات الدولية فحسب، بل بنصيبهما من الحكّام المستبدّين، يستذكر المثقفان أن جزءاً كبيراً من سوريا، تمَّ احتلاله مع العراق، ونتيجة اتفاقية "سايكس بيكو" انسحبت بريطانيا من منطقة الفرات لتتسلم الموصل من سوريا، عبر نداء حمله وجهاء من دير  الزور إلى بريطانيا في مطلع القرن العشرين!

يسهب المثقفان في الحديث عن تفاصيل منطقتيْهما الجغرافيتين، اللتين تتجاوران، وكيف أنهما تشملان عدة جماعات: تركمانية وكردية وعربية، يزيدية وآشورية وسريانية وأرمنية، بدوية وريفية ومدنيّة. وكيف حوّل مشروعُ دولة العسكر، بتلقيه السلبي، في منتصف القرن العشرين، هذا الغنى الوجداني والثقافي، إلى عالم اختلاف ونفور بين تلك الجماعات، وكان يمكن لدولة مشتهاة أن تقرأ اختلافهم بإيجابية، وتبني عليه.

يتساءل المثقف العربي: كيف استطاعت إسطنبول أن تكون نقطة لقاء ثقافات، كأنها تحوّلُ قدرَها الجغرافي على تخوم قارتيْن، إلى قدر تواصلي، يشعر السائح فيها، أو من قصدها ومعه ما يكفي من المال أنه مرَحَّب به، والأبواب مفتوحة له: أيها الغريب، أطلْ المكوث، ما دامت بقجتك ممتلئة بما يكفي لحياة عابرة!

إسطنبول عاصمة العابرين في العالم، تتبادل مع زائريها نخب المؤقَّت، لا تمنحهم أمان الإقامة، وهم ينكرون عليها أن تكون مدينة دافئة

المشترِكون في طحين الهواء اليومي لهم أوجاع أخرى، تنكرها مطاعم إسطنبول ومقاهيها، تبقى صرخاتهم حبيسة معامل وورشات، تنتشر في أقبية الأبنية، تعاملهم كـ مياومين في الحياة والإنتاج، هي الباقية وهم العابرون، لا فرق إن تركوها أو بقوا، ثمة جائع دائماً يريد أن يسدّ جوع يومه، تنتظره أمٌّ أو زوجة أو رجل مسنّ، خلف الحدود، سيتناول الإبرة والخيط من عابر، أقدم منه، ليكمل مسيرة إنتاج، مهمته الرئيسية: إشباع رغبات أشخاص أرجلهم في الطين، وعينهم على موضات العالم، وهم يعرفون أن عنب الشام وبلح العراق بعيد المنال.

إسطنبول عاصمة العابرين في العالم، تتبادل مع زائريها نخب المؤقَّت، لا تمنحهم أمان الإقامة، وهم ينكرون عليها أن تكون مدينة دافئة، يتبرّمون من "نصف الفرص" التي تعطيهم إياها، تستقبلهم كمدينة منتصرة، يشعرون بالضآلة فيها، تقول لهم: انتصرتُ عليكم وأحضرتُكم إلي! كيف لمدينة أن تنتصر على ساكنيها، الذين يعيشون فيها، ولا يكونون منها. شساعتها أكبر من أحلام العابرين، وتضاريسها أضخم من مفاهيمهم، وثبوتيّاتها وأوراقها حمّالة للأخبار غير المريحة غالباً، بعد أن فقدوا القدرة على اختراق منظوماتها، باتوا يشعرون أنها ليست لهم، كأن لغتها غير لغتهم: اللغة كأبجدية، واللغة كتواصل، تشْعِرُهم أنهم في مدينة قلقة، يلتقون كغرباء، فتتولد لديهم أمنيات غريبة!

تحاول أن تنتمي إلى إحدى الجماعات البشرية القاطنة فيها، وقد اكتفتْ بدائرة تواصل صغيرة تشبهُها، تتعامل مع المدينة بصفتها مكان معيشة فحسب، لا تريد أن تكون جزءاً من تاريخها، أو المؤثرين فيها، أو أن تترك أيّ بصمة فيها. وفي الوقت نفسه تنكر بصمات المدينة عليها أو فيها. قرأتْ تلك الجماعات البشرية جدران المدينة جيداً، فوجدت أنه من السهولة على إسطنبول إنكار ساكنيْها أو المؤثرين فيها، إسطنبول مدينة ترحب بالأقوى، لا تتردّد بترحيله، إنْ ضَعُفَ، أو تسفيره، أو طيّ صفحته، ما أسهل النسيان على مدينة عريقة مثل إسطنبول!

يمرّ المثقفان العربيان في أزقة منطقة السلطان أحمد بمتاجر إيرانية، لا بدّ أن يعرجا على دور القوى الإقليمية المؤثرة في الوضع السوري والعراقي، يتساءلان معاً: كيف يمكن أن تتشرب الدولة الحديثة علامات العصرنة، وتكون ذات طابع ديني؟ كيف يمكن استحضار قيم قديمة لتكون مرجعية لدولة حديثة؟ 

يتبادل الصديقان الحديث عن مفاهيم الإمبراطوريات، التي تبحث عن فضاء حيوي، يمكِّنُها لاحقاً، في خطوة تالية، من الإعلان عن نفسها قوة مؤثرة، تتمُّ الموازنة مع الدولة القوية، التي تعلن عن نفوذها بالسلاح النووي، في حين أنه من المعتاد أن تحاول الدولة الساعية للإمبراطورية بناء توسعها، اعتماداً على الديني أو العرقي، أو المهاجرين والأنصار!

ليست قيمة المواطنة والقانون، والرعاية الاجتماعية هي العصبية، الجاذبة لمواطنيها، بل العصبية القومية، والدينية، وتمييز الذات، وتنفيره من الآخر، بدلاً من الانفتاح عليه ومنحه حقوق المواطنة وواجباتها، مما يجعل هذا الآخر في حالة قلق دائمة، وأنه ليس آمناً، حتى لو غيَّر اسمه وحمل ثبوتيات البلد ذاتها!

البناء على الركام مُتعِبٌ، وهذا الشرق جروحه مفتوحة، ولا بدّ أن تبني شعوبه على الركام أحياناً، على مستوى الدول، وخيارات الأفراد، إن ملكوا خياراتهم!

أزقة المكتبات في "بيازيد" تستحضر ذكريات مكتبةٍ بقيت في دمشق وبغداد، أربيل ربما، يقول أحدهما: "بعد أن ذهب بيتي ومكتبتي فقدت كثير من الأشياء رمزيتها"، يقولها مثقف سوري أو عراقي، لا مشكلة، فالوجع واحد، والشعور بخيبة الأمل متبادل، فيردّ عليه زميله: لا يمكن معاندة الزمن كي لا نعيش خارجه، لا بد من الاندماج مرة أخرى مع تفاصيل حياتية جديدة، بأقل ثمن من الخسائر! تنظر عيونهما إلى "آيا صوفيا"، يستذكران تحولاتها، ويستمدان أملاً صامتاً. يتحدثان عن تحولات الدول، ومآلات البنى الاجتماعية في سوريا والعراق وتمثيلات الأنماط الفكرية والوجودية، والتحولات الدينية والمذهبية، عن بلاهة الحروب وتضييع قدرات الدول وشعوبها، وأن الدول الكبرى ليست بالمفهوم السياسي فحسب، بل بمفهوم الأثر والاقتصاد والقدرة العالية على التكيّف.

بعد نقاش طويل، يتقاطعان حول فكرة صعوبة البدايات الجديدة، خاصة إنْ قامت على هدم ما سبق، يستخلصان العبر في أنَّ البناء على الركام مُتعِبٌ، وهذا الشرق جروحه مفتوحة، ولا بدّ أن تبني شعوبه على الركام أحياناً، على مستوى الدول، وخيارات الأفراد، إن ملكوا خياراتهم!

يتأمل المثقفان رتلَ انتظارٍ طويل بأحد الميادين المطلة على البوسفور، فيقول أحدهما: الوقوفُ في هذا الصف الطويل أبعدُ من الحصول على ورقة يانصيب، هو محاولة تكثيف عمر بلحظة تحقّق، أو مصارعة الزمن، والانتصار على جريانه اليومي المعتاد، بعد خسارات عديدة حملتها شهور "كورونا"، هناك رغبة بصفع وجه الزمن مادياً، والاحتجاج على ما حملته يداه، هناك نساء مرتديات غيم الانتظار، ورجال بوجوه متعبة، وأطفال يقرؤون الأحلام المنهكة في وجوه ذويهم، ينتظرون "كمشة" فرح يتزودون بها لأحاديث المساء.

في أسواق إسطنبول تشرئبُّ وجوه، وتفرّ وجوه عما حولها، وتختلف الخطوات، وتتوه الأقدام في أزقة حاراتها، بحثاً عن لحظة سلام داخلي، فيما يدير عاشقٌ وجهه للمدينة، ينظر نحو أفق البحر، متسائلاً: أيُّها البحر متى ستأتي حورياتك المُخَلِّصات، لعلهن ينقذن العالم من كآبته!