متى يكتشف بيدرسون جوهر مهمته؟

2022.09.04 | 06:34 دمشق

متى يكتشف بيدرسون جوهر مهمته؟
+A
حجم الخط
-A

تحدث المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، عن مسار اللجنة الدستورية السورية، والعراقيل التي واجهتها وأسفرت عن تعليق جولاتها، واكتشف بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على مهمته، التي بدأها في السابع من يناير/ كانون الثاني 2019، وعقد ثماني جولات فارغة للجنة، أن "التحدي الرئيسي الذي يواجه اللجنة ليس المكان، ولكن عدم إحراز تقدم في الجوهر"، ثم تذكّر فجأة ضرورة "المضي قدماً في عملية أوسع تتعلق بالجوانب العديدة الأخرى للقرار 2254"، وكأنه أراد الإيحاء بأن هناك جهودا مبذولة لتناول تلك الجوانب الجوهرية المغيبة من القرار، الذي يستلزم الدخول في "عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ 30 حزيران/ يونيو 2012، الذي أيده القرار 2118 (2013)، وإنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخَّول سلطات تنفيذية كاملة"، فضلاً عن إجراءات الثقة وسوى ذلك.

وبالرغم من فشل الجولات الثمانية للجنة الدستورية في إحراز أي تقدم "في الجوهر"، إضافة إلى فشل بيدرسون في عقد الجولة التاسعة لها، مثلما كان مقرراً، بسبب رفض نظام الأسد المشاركة فيها، إلا أن بيدرسون لم يمتلك الجرأة اللازمة لتحميل النظام المسؤولية، مع أنه يمثل الطرف الرافض لمختلف القرارات الأممية المتعلقة بالقضية السورية، والذي امتنع عن الدخول في عملية تفاوض حقيقية مع المعارضة طوال السنوات السابقة، حيث عمل على عرقلة عمل اللجنة الدستورية منذ تشكيلها، مثلما عرقل من قبل جميع جولات مفاوضات جنيف التي بدأت في 2014 وتوقفت نهاية 2017، وما يزال يرفض مجرد البحث في كيفية تطبيق القرارات الأممية، أو الدخول في عملية تفاوض حقيقية، الأمر الذي حذا بأول مبعوث أممي إلى سوريا، كوفي عنان، إلى تحميله مسؤولية فشل مهمته الأممية، وكذلك فعل كل من الأخضر الإبراهيمي الذي قدم اعتذراً للشعب السوري، وستيفان دي ميستورا الذي ذهب في نفس سياق تحميل النظام مسؤولية فشل مهمته، على الرغم من أنه أمضى فيها أكثر من أربع سنوات، ومن تقديمه تنازلات للساسة الروس، عبر اجتراحه السلال الأربعة، وإدخاله منصتي موسكو والقاهرة إلى وفد المعارضة الذي قبل بدوره بكل تلك التنازلات دون مقابل.

تعامل نظام الأسد مع جولاتها الثمانية التي عقدتها، بوصفها لعبة لتضييع الوقت، ومناسبة لاستعراض تسويفاته واستقوائه على وفد المعارضة، الذي وصفه بالوفد التركي

غير أن نظام الأسد لم يمتلك القدرة على اتخاذ مواقفه الرافضة للقرارات الأممية لولا تراجع الدور الأميركي وسياسة الانسحاب من المنطقة، مقابل الدعم غير المحدود الذي تلقاه من طرف ساسة النظام الروسي، فضلاً عن تحريفهم تلك القرارات، وتدخلاتهم في مختلف تفاصيل مسارات التفاوض، لذلك أضافوا اعترضاً جديداً على مكان عقد اجتماعات اللجنة في مدينة جنيف السويسرية، بالرغم من أنهم سبق أن أنهوا مسار جنيف الأممي، واجترحوا بدلاً منه مسار أستانة في بداية عام 2017، ثم قاموا في 30 يناير/ كانون الثاني 2018، بعقد "مؤتمر سوتشي للحوار السوري"، الذي تمخضت عنه اللجنة الدستورية، في حين تعامل نظام الأسد مع جولاتها الثمانية التي عقدتها، بوصفها لعبة لتضييع الوقت، ومناسبة لاستعراض تسويفاته واستقوائه على وفد المعارضة، الذي وصفه بالوفد التركي، لكن المؤسف أن وفد المعارضة رضخ لمختلف أنواع الابتزاز، ودأب على تقديم التنازلات والمشاركة في تلك الجولات العبثية، لكن بالرغم من كل ذلك، قام الساسة الروس بتعليق عمل اللجنة الدستورية بحجة أن المكان لم يعد محايداً، ربطاً منهم القضية السورية بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك على خلفية الموقف السويسري من غزوهم.

ولا شك في أن غالبية الشعب السوري، تنتظر الخلاص من الوضع الكارثي الذي أوصلهم إليه نظام الأسد، وتأمل في أن يتحقق ذلك من خلال تنفيذ القرارات الأممية، لكنها لا تعتبر أن ذلك يمكن تحقيقه من خلال اللجنة الدستورية، حتى لو عقدت مئات الجولات، إذ إن النظام لن يوافق على أي تغييرات دستورية، إلا تلك التي تُفصل على مقاسه، وبما يضمن استمراره جاثماً على صدور السوريين إلى الأبد، وبالتالي لن يتحقق أي تغيير سياسي بواسطة المساعي التي يبذلها غير بيدرسون، مثلما لم يتحقق من قبل بواسطة الجهود التي بذلها كل من ستيفان دي ميستورا والأخضر الإبراهيمي وكوفي عنان، الذين أنهوا مهماتهم دون أن يحرزوا أي تقدم باتجاه الحل السياسي.

التناول الأممي للقضية السورية جرى وفق مقدمات خاطئة واعتبارها منطلقاً لتنفيذ المهام الأممية، وتُجسدها قناعة مفادها أن جوهر القضية وأساسها يكمن في نزاع مسلح، أو حرب أهلية

المشكلة الأساس هي في التناول الأممي للقضية السورية، والتدخلات الدولية في القضية السورية، حيث يولي المبعوثون الأمميون إلى سوريا حسابات زائدة للقوى الدولية المؤثرة فيها، وفي خضوعهم لتأثيراتها وضغوطاتها، وخاصة روسيا، إضافة إلى أن التناول الأممي للقضية السورية جرى وفق مقدمات خاطئة واعتبارها منطلقاً لتنفيذ المهام الأممية، وتُجسدها قناعة مفادها أن جوهر القضية وأساسها يكمن في نزاع مسلح، أو حرب أهلية، ما بين النظام الأسدي والمعارضة، وفي ذلك إنكار لأصل المشكلة الكامن في سعي شعب للخلاص من استبداد نظام حكم ديكتاتوري، أي بوصفها قضية سياسية، يكمن حلها في تغيير سياسي، يلبي الوعود التي خرج من أجلها غالبية السوريين في ثورة ضد طغيان النظام، لذلك كان المأمول من بيدرسون أن يأخذ في حسبانه جوهر القضية السورية السياسي، وألا يهمل جوانبها الإنسانية، لأن إهمال ذلك قاده إلى المساواة بين الضحية والجلاد، وإلى تركيز جهوده على مراعاة الطرف القوي وحلفائهم، أما المدنيون العزل فقد نظر إليهم بوصفهم ضحايا نزاع أهلي، لذلك تعامى عن جرائم نظام الأسد وحلفائه، وعن تشريد أكثر من نصف السوريين إلى المنافي.

وتتطلب القضية السورية تعاملاً مختلفاً من طرف بيدرسون، لا يتجسد في إحراز تقدم في عمل اللجنة الدستورية مثلما يطمح إليه، بل في العمل على تنفيذ القرار 2254، بغية التوصل إلى حل سياسي ينهي المأساة السورية، وليس الدخول في متاهات وعبثية جولات غايتها إفراغ القضية السورية من أي بعد سياسي وحصرها في المسألة الدستورية، وهدفها تمييع القرار 2254 وإفراغه من محتواه، عبر الغرق في مسائل إجرائية أو تقنية، والابتعاد عن جوهر مهمته الأممية.