متى تدق أميركا ساعة الحقيقة؟

2021.10.04 | 05:59 دمشق

3c257605f78ab222feb3aa6bd502b1e6.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا كانت الصهيونية قد ابتزّت أصحاب الحرب العالمية الأولى، لِتَحْصَلَ من الإنكليز على "وعد بلفور"؛ فقد ركبت الثانية لينجز لها الأميركيون قيام الدولة. فمنذ مؤتمر "بالتيمور" الصهيوني في نيويورك عام 1942؛ تحوّل زخم الحركة الصهيونية ونشاطاتها إلى الولايات المتحدة مودّعةً "وعد بلفور" والإنكليز، مستبدلة "وايزمان وهرتسل" ب "بنغوريون، وبيغن وشامير"، وأضحت صوتاً هاماً في كل مَن أتى إلى البيت الأبيض منذ ذلك الوقت؛ فتناغمت جلُّ هواجس واهتمامات أميركا الجيوبوليتيكية في منطقتنا مع الإيقاع الإسرائيلي.

الغوص في العلاقة الأميركية- الإسرائيلية يحتاج إلى مجلدات؛ ابتداءً من الحب، والمشتركات، والدفاع المستميت، مروراً باستحالة الفوز بالمناصب الأميركية الهامة دون رضا إسرائيل، واعتبارها إحدى الولايات الأميركية، وصولاً إلى رؤية منطقتنا بالعين الإسرائيلية. حتى عالمياً، لا تأخذ أميركا مصالح دولة – بما فيها الحليف والشريك الأوروبي- بعين الاعتبار في الكثير من القضايا العالمية كما تأخذ مصالح إسرائيل. وعند التباين أو التناقض في مصالح الدولتين؛ تتجسد "غيرة الأم"؛ ومن هنا قال "كسنجر" يوماً "لا بد أن نحمي إسرائيل حتى من نفسها أحياناً".

هل زالت الهواجس تجاه إسرائيل، وأضحى التناغم غير ذي شأن؟ وهل هو الهم الصيني؟ وأي عقابيل ستتبع هكذا نهج أميركي في إدارة الظهر للمنطقة، والاكتفاء بالرقابة وتحريك الخيوط السياسية عن بعد؟

لا مجال للغوص في السياسات أو المواقف الأميركية في المنطقة ككل؛ ولكن ما استحضر تسليط بعض الضوء على ذلك هو الحديث عن إدارة أميركا ظهرها للمنطقة، ولسوريا تحديداً؛ وخاصة إثر انسحابها من أفغانستان، وتفكيرها بالانسحاب من العراق وسوريا. وكأن ذلك النهج، تجاه الشرق الأوسط، والذي قارب الستة عقود، أصبح قيد الطي؛ فهل زالت الهواجس تجاه إسرائيل، وأضحى التناغم غير ذي شأن؟ وهل هو الهم الصيني؟ وأي عقابيل ستتبع هكذا نهج أميركي في إدارة الظهر للمنطقة، والاكتفاء بالرقابة وتحريك الخيوط السياسية عن بعد؟

إذا كانت تلك الاستراتيجية مجدية وفاعلة توقيتاً وجوهراً في الصراع الإسرائيلي العربي (الفلسطيني تحديداً)؛ بحكم اطمئنان أميركا إلى وصول إسرائيل لحالة من البلوغ والقوة والاستقلال؛ وبحكم اللعب الابتزازي الساخن البارد تجاه تركيا؛ والاكتفاء بالشراكة العسكرية والدبلوماسية تجاه العراق؛ وسحب الخيرات الخليجية، والراحة تجاه وضع مصر، والاطمئنان أو عدم الاكتراث تجاه دول عربية أخرى؛ فإن نهج الإدارة الأميركية بالنسبة للوضع في سوريا منذ "أوباما " 1 وصولاً إلى "بايدن" أو "أوباما "2 ، لا يستقيم، وغير مجدٍ؛ وربما يكون كارثياً على المدى البعيد بالنسبة لها، ولأحد أهم هواجسها واهتماماتها في المنطقة، إسرائيل.

صحيح أن إسرائيل على المدى القريب حققت - بما جرى في سوريا - ما لم تحلم بتحقيقه؛ إلا أن المنظومة العميلة الحاكمة، التي أراحتها لأربعة عقود، قد ذهبت إلى غير رجعة؛ فلا يمكن لقوة في الدنيا أن تلغي ملفات الإجرام التي تراكمت على كاهل منظومة الاستبداد هذه وما فعلته بالبشر والحجر في سوريا. فكما كان من المستحيل إعادة هتلر ونازيته إلى ألمانيا، لا يمكن أن يُعاد تكرير منظومة الاستبداد والإجرام بتغيير سلوكها؟

ما مِن سوري إلا يعرف أن لإسرائيل إرادة بحماية واستمرارية هذه المنظومة، حيث راقها، عند انتفاضة سوريا على الاستبداد، ذلك النهج الأسدي ببقائه أو التدمير. لقد غاب عن إسرائيل وعن أميركا، التي تعهدت بحماية إسرائيل حتى من نفسها، أن تلك المعادلة العدمية لمنظومة الإجرام فاشلة بامتياز. سوريا الجغرافيا لا يمكن ترحيلها؛ ونهاية تلك الجغرافيا تمزيق لكل المنطقة؛ وتحديداً لإسرائيل ذاتها؛ والمساعي الأردنية تصبُّ في ذلك الاتجاه، وستأخذ الأردن بطريقها. سوريا الشعب والقضية والحقوق هي الأساس في أي معادلة جيواستراتيجية تخص المنطقة ككل. ولا بد من التَّذَكُّر أيضاً أنه رغم اهتزاز مواقف بعض من ال 130 دولة، التي ناصرت حق الشعب السوري، إلا أن ثِقَلَهُم يصعب تجاهله أو اعتباره أمراً عابرا.

إن اختصار أميركا القضية السورية بمحاربة الإرهاب والأمور الإنسانية، دون النظر ومعالجة مغناطيس الإرهاب والمتسبب الأول به، ومدمر الحياة الإنسانية، والمزعزع لاستقرار المنطقة، قد شكّل حالة مشجعة للروس كي ينخرطوا في القضية السورية، ويعيدوا موضعة أنفسهم على خارطة الشرق الأوسط، ويزاحموا أميركا حتى على "حُب إسرائيل". لقد وصل التخلي الأميركي إلى درجة تسليم القضية برمتها للجانب الروسي، حيث بدأ الروسي بهلوانيات سياسية فاشلة، بعد أن استنفد الاستخدام الأبشع للقوة العسكرية. وكأن تسجيل فشل الروسي إنجاز سياسي بالنسبة للأميركيين. وهذا أوصل القضية السورية إلى حالة من الاستنقاع والتفسخ؛ ستأكل مفاعيله كل المشاركين بالمسألة.

الحد الأقصى الذي وصلت إليه سياسة واشنطن تجاه القضية هو "تغيير سلوك النظام". وهذه العبارة بالذات التقطها الصغار وأبواق مؤسسات إعلامية رخيصة، وبدأت المكوكيات بين واشنطن وموسكو دعماً لتسويق النهج الروسي في إعادة تكرير منظومة الاستبداد، على اعتبار أنه ليس مطلوباً تغيير منظومة الاستبداد بل فقط تحسين السلوك؛ وطي صفحة عشر أعوام من الإجرام بحق سوريا وشعبها؛ وكأن المسألة خطأ عابر لا بد من طيّه. مرة أخرى، هل كان بالإمكان إعادة تكرير الهتلرية لو غيّرت سلوكها؟

نهج أميركا هذا جعل إيران "العدو" تتفرعن أكثر وتقتل وتتمدد وتعبث بأمن المنطقة كما تشاء؛ لقد حاصر وخنق تركيا عضو الناتو والمفترض صديقاً لأميركا؛ وجعل الدول العربية التي تدور تقليدياً وتاريخياً في الفلك الأميركي مربكة مستنزفة تبحث عن مدارات أخرى؛ والأهم من ذلك كرّس غرابة الجسم الصهيوني (هاجس أميركا الأساس) في المنطقة. وما محاولات تقرب بعض دول عربية منها إلا نتاج إحساس بالتخلّي الأميركي؛ علَّ تقديم أوراق الاعتماد لإسرائيل يعيد بعض الود الأميركي للمتقربين. وهذا كله صواعق انفجار مستقبلية، لأنه ليس طبيعياً.

صحيح أن أميركا وصلت إلى درجة من القوة، حيث لم تطلها آلام حربين عالميتين، بل على العكس جنت منهما التربع على عرش القوة؛ فتطورت تقانياً مستندة إلى قوة قارية اقتصادية وعسكرية وسياسية جبارة، ليصبح القرب منها نار، والبعد عنها كذلك؛ إلا أن ذلك الثقل المنتظر، وتلك القوة التي أوجدت توازناً في عالمنا، ومنعت حروباً عالمية جديدة؛ وأضحى لا يحدث أمر على كوكبنا إلا وتكون أميركا في الحسبان، فإنها تغيب تاركة فراغاً لعبث الصغار أو المغامرين أو قتلة شعوبهم الاستبداديين أو ديدان التخريب والإرهاب.

إدارة الظهر للمنطقة، وخاصة لسوريا والصراع فيها وعليها، وهي بوابة قارات ثلاث، ودرة الحزام الحي؛ ليس إلا الوصفة الأنجع لتهديد التوازن والسلام العالمي، وإعداماً لحقوق الإنسان وحريته

خبراء استراتيجيون يضعون الحالة الأميركية الحاضرة تجاه منطقتنا في أحد ثلاث خانات: فهي تفعل ذلك إما لحكمة مآلها تأديب الجميع وإظهار عجزهم وفشلهم وتخريبهم وحاجتهم الماسّة إليها، أو لغفلة وضيق أفق وسوء حسابات استراتيجياً. أما الخانة الثالثة فتتمثل بالعجز والإحساس بالفشل، والتوق لنجاة فردية عبر الانغلاق على الذات. وهذا لن يوفرها؛ فلن يحميها المُحيطون بها غرباً وشرقاً؛ والأهم على صعيد منطقتنا، يضع ربيبتها وهاجسها في حالة اهتزاز حقيقي قابل للضياع والاقتلاع، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً حتماً.

أخيراً؛ وللحفاظ على إيقاع عالمي يمنع الدم والدمار والفقر والانهيار، ويعيد البوصلة إلى مسارها الصحيح؛ لا بد من التعمق في جوهر تلك الصراعات؛ ووضع العابثين بمصائر الشعوب بحجمهم الحقيقي. فإدارة الظهر للمنطقة، وخاصة لسوريا والصراع فيها وعليها، وهي بوابة قارات ثلاث، ودرة الحزام الحي؛ ليس إلا الوصفة الأنجع لتهديد التوازن والسلام العالمي، وإعداماً لحقوق الإنسان وحريته؛ التي طالما تغنّت بها أميركا. فهل نشهد دق أميركا ساعة الحقيقة؟