متلازمة عباس النوري

2022.03.01 | 05:04 دمشق

4588376-1073501962.jpg
+A
حجم الخط
-A

غالباً ما تشير كلمة متلازمة إلى البعد النفسي أو أحد الأمراض النفسية حيث الكثير من المظاهر والأمراض النفسية ارتبط اسمها مع كلمة متلازمة، فأحياناً ترتبط كلمة متلازمة مع اسم مكان أو شخص أو حوادث معينة، كان لها، أو لوجودهم فيها بلحظة ما، أثر نفسي مميز يتصف بمجموعة من الخصائص النفسية المتفردة التي تضفي على هذا الأثر طابع المرض النفسي؛ فنجد العديد من المتلازمات التي ارتبطت بمكان حدوثها مثل متلازمة ليما، ومتلازمة باريس، ومتلازمة ستوكهولم، ومنها ما ارتبط بأسماء أشخاص كمتلازمة ستندال، وكل واحدة من هذه المتلازمات تحيل إلى ظاهرة أو مرض نفسي محدد، وما يهمنا هنا هو متلازمة ستوكهولم والتي سميت على اسم عاصمة السويد حيث وقع الحدث الذي أُشتق منه اسم المتلازمة والذي يمكن تلخيصه بأن عدداً من المسلحين قاموا بالسطو على بنك واختطفوا عدداً من الرهائن لما يقارب الأسبوع، وخلال هذا الأسبوع تم رصد ظاهرة نفسية من أهم ميزاتها ارتباط الرهائن العاطفي مع الخاطفين لدرجة الدفاع عنهم وما يعبر عنه بتعاطف الضحية مع الجلاد.

أما متلازمة عباس النوري التي اقترحتها عنواناً لهذه المقاربة النفسية، فهي جاءت بناء على حدث معين؛ الحدث الذي سلط الضوء عليها كمتلازمة أو ظاهرة وأعطاها هذا الاسم هو النقد لنظام الأسد الذي تجرأ وتفوه به عباس النوري خلال برنامج إذاعي حيث تجاوز النوري الخطوط الحمر ودخل في المنطقة المحرمة عندما ربط بين غياب الديمقراطية في سوريا وبين استلام حزب البعث والعسكر السلطة؛ ليعود في اليوم الثاني معتذراً ومقدما كل آيات المحبة للقائد المفدى وللجيش السوري حامي الحمى. ولم يكن عباس النوري الأول في هكذا تصرف بل سبقه إليه الكثير من الفنانين والكتاب لكنه واحد من الأكثر شهرة؛ وكان الأكثر فجاجة بالنقد والأكثر وقاحة بالاعتذار.

هذه المتلازمة أخذت اسم "متلازمة عباس النوري" لعدة أسباب أهمها أن هذه المتلازمة مثل كل المتلازمات النفسية الأخرى وبرغم انتشارها بين الكثير من أفراد المجتمع لكنها ظهرت نتيجة حادثة مميزة أو ارتبطت بأشخاص مميزين ومشهورين، وفي حالتنا هذه كان هذا الشخص هو عباس النوري الذي شكل قاسماً مشتركاً لفئة من الفنانين السوريين والمثقفين والكتاب الذين مارسوا الممارسة نفسها التي تحيل إلى هذه الظاهرة النفسية أو إلى هذه المتلازمة.

لاتختلف متلازمة ستوكهولم عن متلازمة عباس النوري من حيث الشكل العام والخلاصة المجردة، ولكنها تختلف من حيث طبيعة الضحية وطبيعة الجلاد

وهنا لا أريد أن أدخل عميقاً وأغوص مع "الأنا" و"الهو" و"الأنا الأعلى" ومنظومة الوعي واللاوعي وتمظهر مفاعيلهم عند الشخص المصاب فهي مسألة تدخل في طبقات عميقة من علم النفس والتحليل النفسي التي يمكن أن يرصدها متخصصون في التحليل النفسي، لكنني سأركز على الاختلافات بين متلازمة ستوكهولم و"متلازمة عباس النوري" وتبيان الفرق في عناصرهما المختلفة.

وربما لاتختلف متلازمة ستوكهولم عن متلازمة عباس النوري من حيث الشكل العام والخلاصة المجردة، ولكنها تختلف من حيث طبيعة الضحية وطبيعة الجلاد وبالضرورة أن يؤدي هذا الاختلاف إلى نتائج مختلفة تحكم الإطار العام لهذه المتلازمة ومظاهرها وآثارها، وإذا كانت عناصر متلازمة ستوكهولم بكل أطرافها من الضحية، وهم هنا مجموعة من الموظفين العاديين، إلى الجلاد، ويمثله مجموعة من الخاطفين، إلى مكان الحدث المحدد والذي مساحته لاتتجاوز الأمتار، ومدته الزمنية التي كانت بحدود الأسبوع؛ فإن عناصر متلازمة عباس النوري تختلف جذرياً حيث الضحية هو شعب بكامله والجلاد هو رئيس البلاد وحاشيته، ومكانها يمتد على مساحة الوطن، وزمنها يمتد العمر كله من الميلاد إلى الممات.

ويمكن القول أيضاً إن الاختلاف الأساسي يكمن في طبيعة الجلاد نفسه، فهم الخاطفون في متلازمة ستوكهولم وأقصى ما يسعون إليه هو الحصول على المال؛ أما الجلاد في متلازمة عباس النوري فهو رئيس النظام الذي يمتلك من الصفات ما يجعله مختلفاً تماماً عن صفات الخاطفين برغم اشتراكه معهم في السعي للحصول على الثروة، إلا أنه قاس ومستبد، لكنه بالوقت نفسه يلعب دور الأب الحنون، الأب القائد، وهو رمز الوطن ويختصر الجغرافيا والتاريخ بشخصه فهو الوطن والوطن هو، لا يقبل الاختلاف، وكل اختلاف معه بمثابة مؤامرة عليه وعلى سلطته وكيانه يجب التخلص ممن يقفون وراءها.

إن الكثير من أفراد هذه الشعوب التي بقيت لمدة طويلة تحت هذا الشكل من الحكم والاستبداد والظلم والقهر والقمع وانسداد الأفق تتشكل في داخلها الكثير من الظواهر النفسية المرضية مثل تبخيس الذات، والاكتئاب، والأنانية المفرطة في حب الذات والخلاص الفردي مما يدمر روح التعاون والثقة بين أفراد المجتمع تحقيقاً للمثل القائل " كُلْ مين إيدو إلو"، ويصبح كل فرد مخبراً في طور التكوين من خلال تعزيز قناعته بأن الارتباط بأجهزة الأمن هو الوسيلة الأمثل للدفاع عن نفسه ومصالحه. وقد عالج  موضوع المشكلات النفسية الناتجة عن الاستبداد الكثير من الكتاب والمفكرين إن كان في الروايات والقصص التي سبرت الأغوار النفسية للضحية والجلاد ومدى تأثير هذه المشكلات على حياة الناس وانعكاسها في علاقاتهم وحياتهم اليومية، ومن بين الكتاب الذين ركزوا على هذا الموضوع بشكل خاص ومباشر الدكتور مصطفى حجازي في كتابيه الإنسان المهدور وكتاب التخلف الاجتماعي/ مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور، حيث يقول فيه: "لا يجد الإنسان المقهور من مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية كقدر مفروض. ومن هنا شيوع تصرفات التزلف والاستزلام، والمبالغة في تعظيم السيد، اتقاء لشره أو طمعاً في رضاه. إنه يعيش في عالم بلا رحمة أو تكافؤ إذا أراد المجابهة أو فكر في التمرد". ص39

إن هذه الملامح العامة للفرق بين الخاطف، الجلاد، في متلازمة ستوكهولم والرئيس الجلاد في متلازمة عباس النوري ليست فوارق عارضة في بنية الظاهرة بل فوارق أساسية سوف ينتج عنها بالضرورة عوارض نفسية مختلفة إذا لم يكن من حيث النوع فبالتأكيد من حيث الشدة.

إن قوة النقد للسلطة والنظام من جهة، وضغط الخوف من الجلاد وتهديده من جهة أخرى، شكلا قلقاً واضطراباً نفسياً للنوري

ويختلف الضحية أيضاً في متلازمة عباس النوري ومن يقاسمه هذا المسلك، عن ضحايا متلازمة ستوكهولم من حيث إنهم أشخاص مشهورون وأصواتهم تصل إلى عدد كبير من الناس المعجبين بهم أو غير المعجبين، بينما كان ضحايا متلازمة ستوكهولم موظفين مغمورين لم يُعرفوا إلا بصفتهم ضحايا مرتبطين بتلك المتلازمة. ويبرز الاختلاف الثاني من تلك القناعة المتولدة عند أصحاب متلازمة عباس النوري بأن شهرتهم واتساعها سوف تعطيهم الحصانة اللازمة من بطش النظام المتسلط والمستبد بينما لم يكن عند أصحاب متلازمة ستوكهولم هذا الوهم لأنهم غير معروفين أصلاً؛ أما الاختلاف الثالث فهو أن الضحايا في متلازمة عباس النوري كانوا دائماً على علاقة إيجابية  مع الجلاد وقراراته قبل الحدث الذي استلزم إطلاق هذا الاسم، أما ضحايا استكهولم لم يعرفوا الجلاد إلا لحظة الاختطاف؛ وربما يكون الفرق الأهم هو بالبنية العاطفية والنفسية لضحايا متلازمة عباس النوري من حيث إنهم فنانون وكتّاب فلا يمكن إنكار أنهم يمتلكون بنية حسية وعاطفية تجعلهم أكثر عرضة للانفعالات العاطفية لما يدور حولهم، مما يجعلهم يعيشون توتراً دائماً على المستوى النفسي العميق بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، قد يخرج هذا التوتر عن السيطرة إلى العلن بشكل هيستيري وغير محسوب في بعض الأحيان.

إن قوة النقد للسلطة والنظام من جهة، وضغط الخوف من الجلاد وتهديده من جهة أخرى، شكلت قلقاً واضطراباً نفسياً للنوري استدعى تحفيز آليات الدفاع كاستراتيجيات نفسية هدفها حماية النفس من القلق والتوتر والحفاظ على صورة مقبولة له أمام نفسه أولاً وأمام المحيطين ثانياً؛ وذلك من خلال لي عنق الأفكار والمراوغة بالعواطف وتشويه الواقع وتغيير مفاهيمه، لذلك بالغ النوري عند الاعتذار في تبيان حبه لرأس النظام وجيشه حتى يجد المعادل النفسي لتراجعه عن القول الحق، محاولاً أن يثبت لنفسه بهذا المديح أنه على حق في هذا التراجع وأن ميزات هذا النظام الخارقة لا يمكن نقدها بتلك الطريقة، وأن ما قاله من نقد ماهو إلا من فرط حبه لهذا النظام ورموزه؛ وكان هذا الاعتذار وفجاجته وحالة الحب التي حاول أن يغلف بها تذلله وخنوعه الصورة الأوضح لحب الضحية لجلادها والذي ذكرني بنهاية رواية جورج أورويل 1984 حيث يصف بطل روايته في اللحظة التي يساق بها إلى الموت بأمرٍ من المستبد الأخ الأكبر: "لقد انتصر على نفسه الآن. إنه يحبّ الأخ الأكبر!".