مارد نديم كرم الحديدي: فن تكرار التفجير إلى الأبد

2021.07.30 | 05:23 دمشق

8e13a062-bff7-48f8-9c60-0d0fffd4e1cf.jpeg
+A
حجم الخط
-A

ينصب نديم كرم مارده الحديديّ المصنوع من موادّ خلّفها انفجار مرفأ بيروت ليصنع ما يعتبره فنا لبنانيًّا خالصا، يرتبط بمفاهيم النّهوض من تحت الأنقاض ورمزيّة طائر الفينيق وعودته الدائمة إلى الحياة بعد الاحتراق وكلّ هذا المحمول الشّعري المكثّف.

يفترض هذا السّياق قبل كلّ شيء أن الانفجار قد أفصح بشكل تام ونهائيّ عن معناه، ولم يعد بالإمكان النّظر إليه خارج هذه الكتلة الصّلبة من المعاني والدلالات والرّموز. أبعد من ذلك يقول استخدام الصّيغة الفنية في هذه اللحظة إنّ الكلام العادي والعام، والحديث السّياسيّ والقانونيّ لم يعد له مكان، لأنه قاصر عن مجاراة البعد المفتوح وغير المحدود الّذي يتيحه إلحاق الانفجار بالمجال الفني.

يصبح الحديث عن الآلام الّتي لم ينج منها أيّ لبناني شأنا خاصا وفرديا، يجب على كل واحد منا التّعامل معه بشكل شخصيّ، وليس من حقه بأيّ شكل من الأشكال نقله إلى الميدان العام. هكذا يقف الفن شاهدا على نهايات الكلام والآلام ويؤدي دور الحاجز الصّلب الّذي يمنعها من التّدفّق والطّوفان.

مرعبة هذه الوظيفة التي تناط بالفن في هذه اللحظة الكارثية من تاريخ البلد، حيث يلعب دور القمع وكمّ الأفواه الّذي تقوم به السلطات بشكل أكثر فظاظة وعنفا نظرا إلى تغطّيه بالشّعرية والرّموز.

كلّ السّلطات القائمة في البلد سعت، ومنذ اللحظة الأولى للانفجار إلى تحويل كتلة الألم والغضب الضخمة إلى شيء آخر. حرصت بعض القوى إلى صبها في الخزان الطائفي والبعض الآخر اجتهد في توظيفها في صراعات داخلية.

 ولكنّ التّركيبة المهرجانية الأن جي أوزية التي بدأت في الفترة الأخيرة تكشف عن قدرة لافتة على صناعة مقاربات خاصة للشأن العام نجحت في أن تقدم للسلطات عمومّا وللسلطة الفعلية أي حزب الله خصوصا قارب النجاة المشتهى، وهو تحويل مساعي المساءلة والمحاسبة إلى غبار.

مرعبة هذه الوظيفة التي تناط بالفن في هذه اللحظة الكارثية من تاريخ البلد، حيث يلعب دور القمع وكمّ الأفواه الّذي تقوم به السلطات

الطريقة المعتمدة وجدت ضالتها عبر دفع المسار في اتجاه آخر يتمثل ويتكثف رمزيا ودلاليًّا في كتلة الحديد الفظة التي صنعها نديم كرم، والتي لا يمكن لأحد إنكار أنّها في بعدها الأكثر غورا مستمدة من خيال حزب الله ومن مجاله البصري الرمزي الذي يؤمن بحديد السّلاح والصّواريخ كناظم أعلى لصورة البلاد ومشهديّتها ومصيرها.

وعليه فإن مارد نديم كرم يفلش ظل الحزب الإلهيّ بوقاحة منقطعة النّظير على المأساة، ليس بهدف تغطيتها كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، وليس بهدف تعطيل المحاسبة والإشارة المباشرة إليه بأصابع الاتهام وحسب، ولكن بهدف التنكيل الأبديّ بالضّحايا وأهلهم ومن ورائهم كلّ اللبنانيّين.

الهدف هو ترك الجثث في العراء لتتعفن الذاكرة المرتبطة بها، والتي تمثل الرابط الجامع بين عموم اللبنانيّين في هذه اللحظة ومن ضمنهم جمهوره.

 يعلم الحزب القاتل والّذي صار من نافل القول التّأكيد على مسؤوليته الكاملة والمطلقة عن التّفجير، إن اللّحظة الّتي تدفن فيها الجثث فعلا ويتم شغل الحداد، بما يعنيه ذلك من عودة إلى العقلنة إنما هي اللّحظة التي سيبدأ فيها النّاس الحرب الشّاملة ضده، وهي حرب لا يمكن لتفوقه العسكري والأمني والمالي أن يضمن له الرّبح فيها لسبب بسيط، يكمن في أنّها ستكون بلا حدود.

النمط الغيبي من الاستعادات لشهداء التفجير على غرار ما فعلته قناة الـ"إم تي في" في إنطاقها للشهداء وتركيب كلام على لسانهم، يشي بمدى سيطرة خطابه على المجال العام.

كل شيء جاهز للدخول في المهرجانية والاحتفالية. الانفجار صار ذكرى يمكن أن نركّب لها العدادات ونبدأ العد التّنازلي على غرار العدادات الّتي ركّبت بعد اغتيال رفيق الحريري في انتظار صدور حكم المحكمة، والذي حين صدر تحول زمن الانتظار إلى زمن مطلق ومفتوح ولا نهائي.

ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن الحزب الإلهي كان يعلم أن انتصاره على أهل الفقيد وناسه وجمهوره كان حتميّا قبل انطلاق المحكمة، ولكنّه مع ذلك حرص على السّيطرة على مستقبل الحدث وإقفاله وتكثيفه في لحظة انتظار عدالة لن تأتي، بما يعنيه ذلك من جر للجمهور المنتظر إلى الإقامة في سجن الانتظار اليائس، أي العيش في حالة التّعذيب الدّائم والذي لا أمل في إيقافه أو انتهائه.

هذا تحديدا ما يتم التعامل معه في كل ما يخص تفجير المرفأ ومع عموم اللبنانيّين المتضررين منه. إذا كان سليم عياش هو التمثال المعدنيّ لجثة العدالة المستحيلة في اغتيال رفيق الحريري، فإن تمثال كرم ليس سوى الترميز المباشر لاستحالة التوصل إلى الحقيقة في هذا الموضوع، أو لوضعها في سياق إدانة مباشرة تفترض محاسبة قانونيّة وسياسيّة وحتى أخلاقيّة.

ولأن الجرائم معلنة فإنّ الصّيغة الجديدة التي يلعبها الحزب في هذه الآونة تقول إنّه يريد أن يمهر الشماتة المعدنية بإمضائه الفعلي، وإن كان ذلك عبر الفنان العظيم نديم كرم .

الإمضاء على الكارثة تأكيد أنّنا لا يمكننا أن نفعل شيئا حيالها، وأن المسافة التي تفصلنا عنه قد باتت بحجمها، لذا فإنّ مهمته تكمن في دفعها نحو التّوسع الدّائم كي لا يعود ممكنًا الاقتراب منه.

أليس عرس ابنة النائب الإلهي نوار الساحلي يؤكد ذلك؟ ما معنى إظهار البذخ في الوقت الذي يتضور فيه اللّبنانيون جوعًا سوى التّأكيد على أنّ المسافة بيننا وبينه قد باتت غير قابلة للقياس؟

 الأمر نفسه ينطبق على ما يخص المارد الحديدي في المرفأ، والّذي ما كان له أن يرى النور لو لم يكن التمثيل المباشر والفظ والوقح والصريح عن زمن التّعذيب المطلق الّذي يحرص على سجننا فيه، والإعلان الصارخ والمهرجاني عن موت الأمل.

في المشهد الختامي يظهر نصر الله معلقا على صورة التمثال الحديدي قائلا: انظروا إلى الأمل وهو يصلب، ولكن انتبهوا لا قيامة هنا، بل سيتكرّر هذا العذاب اللّئيم إلى الأبد.