ماذا يريد السوريون؟

2022.06.07 | 13:22 دمشق

2018-03-25-11.51.21.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الفترة الأخيرة، تعمّدت أن أتتبع ما يقوله السوريون في وسائل التواصل الاجتماعي حول سؤال يشغلني، وكنت أتعمّد طرحه على أغلب السوريين الذين ألتقيهم:

  • كيف تريد أن تكون سوريا، وماذا تريد منها مستقبلاً؟

كانت العناوين الكبرى للإجابات تتشابه كثيراً، وتكاد تشكل إجماعا لدى السوريين، فهناك ما أصبح بمثابة الفاتحة لنسبة ساحقة منهم، وأقصد مفردات السيادة، والكرامة، والمواطنة والحرية، وكل هذه المصطلحات والمفاهيم التي يكررها السوريون كلازمة تسبق أي حديث لهم عن سوريا، لكن ما صدمني أن كل هذا الإجماع كان ينهار سريعاً عندما أغوص أكثر في دلالات هذه المصطلحات بالنسبة لهم، أو عندما أسأل حول معنى هذه المفاهيم، وحول صيغ تحقيقها في الواقع العياني لسوريا القادمة.

تحت القشرة الرقيقة للكلمات العامة المتداولة تكمن الفاجعة، فسوريا التي يريدونها، والتي تكمن تحت هذه القشرة، شديدة التباين، وشديدة التنافر، لابل إنها أقرب للعداء، وإذا أردت أن أبالغ قليلاً، أمكنني القول إنها تكاد تتنوع بتنوع الأفراد السوريين، ليست سوريا المتخيلة وحدها المتنوعة، بل إن السيادة، والمواطنة، والحرية والديمقراطية، وغيرها.. كلها متنوعة، ومختلفة وشديدة التناقض، لكأنّها مفردات لاعلاقة لها بعلم الاجتماع السياسي، ولا علاقة لها بمفاهيم ومصطلحات اشتقت تحديداً لتوضيح جوهرها ومعناها.

لماذا تشظى السوريون إلى هذا الحد، ولماذا لم تعد مشتركاتهم على تنوعها وكثرتها، قادرة على أن تحفّز فيهم وعي الحاجة الماسة لتجسيد هذه المشتركات في علاقتهم ببعضهم أولاً، وبوطنهم ثانياً، ولماذا تطرفوا فيما يفرقهم إلى حد أن الجغرافيا السورية أصبحت محل اختلاف ووجهات نظر؟

ثمة ما يلفت الانتباه في الحالة السورية، وفي حالات أخرى كثيرة مشابهة، هو النزوع البالغ للتحطيم

بالتأكيد هناك تفاسير متداولة لهذا التشظي، تبدأ بسؤال الهوية، ولاتنتهي بالدولة والصيغة المشوهة لها في سوريا، خصوصاً بعد وصول البعث إلى الحكم، ولا بالمواطنة والحرية والكرامة، وكل هذه الركائز الأساسية التي تبني الشعوب وفقها علاقتها بالسلطة الحاكمة، أو بالوطن والدولة، ولا بخصوصية التاريخ والأديان، فكل هذا حاضر ومهم في صياغة السوريين لعلاقتهم ببعضهم، وبدولتهم وبوطنهم.

لكن ثمة ما يلفت الانتباه في الحالة السورية، وفي حالات أخرى كثيرة مشابهة، هو النزوع البالغ للتحطيم، لا أقصد التحطيم بمعناه المادي فحسب، بل أقصد أكثر تلك الرغبة الجامحة في تحطيم كل شيء، المادي والثقافي والديني والسياسي، وكل ما شكل في وعيهم، ولا وعيهم صيغة من صيغ القمع، أو كابحاً لانفلات ذاتهم المقموعة طويلاً، ولعل هذا ما قد يفسر إلى حد ما لماذا لم يهتم السوريون كثيراً في السؤال البالغ الأهمية، الذي كان مستحقاً منذ اللحظة الأولى لثورتهم وقبلها أيضاً، وأقصد سؤال الجدوى والغاية، وطرق الوصول إليهما، لكأنّما السوريون أرادوا القول: لنحطم الآن وما بعد ذلك سنجد الجواب.

لم تهتم النخب الثقافية والفكرية والسياسية، وخصوصاً من تخصصوا في علم الاجتماع السياسي أو دراسة التاريخ – على افتراض وجودها - بهذه النزعة التي غالباً ما تتفشى في زمن الثورات، وهو أمر كان ضروريا جداً منذ البداية، ولم يهتموا بها لاحقاً، وهذا ما يدعو للاستغراب إلى حد ما، ورغم مضي سنوات طويلة لاتزال هذه الرغبة في التحطيم حاضرة وبقوة، وتذهب في أغلب الأحيان إلى تجاهل جدوى هذا التحطيم، وهل هو ضروري، أم هو ضار، وله انعكاساته السلبية على مايحلمون به.

إذا جاز لي تصنيف السوريين في شتاتهم المتنوع، والمختلف الظروف، فإنني أستطيع القول إن من يتمكن من التعبير بحرية عما يريده، فإن أكثر ما يتبدى فيه هو نزوعه نحو تحطيم كل ما كان قائماً وصياغة آخر مختلف، آخر أهم مافيه أنه نقيض ما كان قائماً، وإن دلالته في النقيض المتخيل، هو فردانيته ورؤيته الخاصة، وربما وقائع حياته الخاصة، وليست الحاجة الجامعة التي تؤسس للدولة الأنسب والوطن المشتهى.

في المناطق التي يعيش فيها سوريون تحت سلطة "سورية"، سواء في مناطق سيطرة النظام أو مناطق السيطرات الأخرى، فإن ما يجمع هؤلاء السوريين لا يتحدد بدلالة القواسم المشتركة، أو البرامج السياسية، أو حتى الأهداف العامة المشتركة، وإنما يتحدد أساساً بدلالة القوة القامعة التي تتولى إدارة هذا التجمع، ومدى قوتها وسطوتها وقدرتها على إلحاق الأذى بمن يتبعون لها، وهذا مايمكننا -ربما- من تفسير سر بقاء هذه التجمعات وعدم انفراطها وتماسكها الظاهر المخادع.

باختصار إن التجمعات السورية القائمة، والتي لاتزال فاعلة، إنّما هي باقية بفعل القمع أساساً، وما نراه على الأرض من قوى، إنّما تحكمه علاقة تناسب حجم وفعالية هذه القوى طردا مع شدة القمع الذي يمارس في مناطقها، لكن هل يقود هذا إلى تبني الديكتاتورية كطريقة لإدارة الدولة والمجتمع، هذه الفكرة التي كثيراً مانسمعها عندما يتعمق السوريون في البحث عن مستقبل دولتهم، على ضوء التشظي الكبير في رؤاهم وثقافاتهم، وعلى ضوء تفشي العنف في علاقاتهم؟

ما يتم تداوله في هذه الفترة عن تحركات للدول النافذة في الشأن السوري، يشير إلى احتمالات التقسيم، وتكرّيس مناطق النفوذ، وتبديد كل أحلام السوريين بوطنهم، الذي ثاروا من أجله

كيف إذن سيذهب السوريون إلى دولتهم القادمة في ضوء هذه المعادلة، المستندة أساساً إلى ركيزتين، الأولى قمع شديد يؤدي إلى اجتماع سوري مخادع وغير حقيقي، ولايستند إلى الضرورات الأساسية لأي اجتماع سياسي ومدني في عصرنا الراهن، وتشظي لا نهاية له يعيشه السوريون خارج وطأة القمع؟

إنّها مجرد أسئلة تضعها الوقائع اليومية لما يحدث في سوريا أمام كل السوريين، خصوصاً وأن ما يتم تداوله في هذه الفترة عن تحركات للدول النافذة في الشأن السوري، يشير إلى احتمالات التقسيم، وتكرّيس مناطق النفوذ، وتبديد كل أحلام السوريين بوطنهم، الذي ثاروا من أجله.

لكن قبل أن تكون هذه الأسئلة في ذمة عموم السوريين، إنها أصلاً في ذمة من يصنفون على أنهم نخب سورية، ويفترض أنهم الأكثر قدرة على قراءة هذا التردي السوري المرعب، وتلمس المقدمات الضرورية لاستعادة العمل الجمعي، الذي لن يكون لأي حديث عن سوريا قادمة بغير تحققه أي معنى.