ماذا لو عاد السوريون إلى الشارع؟

2023.01.11 | 06:11 دمشق

ماذا لو عاد السوريون إلى الشارع؟
+A
حجم الخط
-A

تداول السوريون منذ فترة "هاشتاغ" (سنعيد سيرتها الأولى)، وكان المحفز الأساسي لإطلاقه هو ما بدأ يُشاع عن تقارب تركي مع نظام بشار الأسد، الأمر الذي أيقظ خوف السوريين على احتمال فاجع، وهو أن يجدوا أنفسهم بعد كل ما فعلوه وقدّموه وضحوا به، تحت سلطة قاتلهم مرة أخرى.

ربما لا يكون دقيقاً الحديث عن سيرة أولى وسير أخرى بعدها، فما حدث ليس استبدال سيرة بسيرة أخرى، إلا إذا كنا نقصد بالسيرة من يتصدرون الواجهة، هنا يصبح للحديث وجه آخر، أما إذا كنا نقصد الهدف الذي سعت إليه الثورة منذ بدايتها فهو لم يتغير، ولم يتم التخلي عنه حتى اللحظة، وما نزول السوريين إلى الشوارع في المناطق الخارجة عن سيطرة عائلة الأسد، إلا للتأكيد على أنهم لايزالون على مطلبهم بنهاية حكم عائلة الأسد.

نعم هناك محطات ونتائج كثيرة لم يكن السوريون يتوقعونها في مسار ثورتهم، لكنهم لم يتوقفوا، ولم يتخلوا عن مطالبتهم بما قاموا من أجله، ما أوحى بأنهم توقفوا عن انتظارهم، انتظارهم لمن تصدروا واجهة ثورتهم، وانتظارهم لمن ظنوا أنهم يقفون معهم أو يساندون قضيتهم، وها هم بعد خيبة أملهم يقررون أن يواصلوا ما بدؤوا به.

كثيراً ما يكتب سوريون "مثقفون" و"سياسيون" عن صعوبة استعادة السوريين لسيرة ثورتهم الأولى، يذكّرني هذا بعشية شهر آذار 2011م، حين كان معظم المثقفين والسياسيين السوريين يتحدثون لساعات عن صعوبة أو استحالة تحرك الشارع السوري، وكانت التنظيرات التي تفسّر هذه الاستحالة تتنافس في عمق تحليلاتها، وأهميتها بين جلسة وأخرى ومثقف وآخر، لكنهم وعندما نزل مئات آلاف السوريين إلى الشوارع، لم يتبادر إلى ذهن أولئك المثقفين أو السياسيين، أن يعترفوا بأنهم لم يفهموا يوما الشارع الذي يدعون أنهم نبضه وصوته.

لم يكن مثقفو سوريا وسياسيوها يوماً على معرفة جيدة بما يفترض أنهم الأعرف به، وأقصد الواقع السوري، وكانوا دائماً أسرى ما يستحضرونه من كتب وتجارب الآخرين

اليوم تتكرر الحكاية ذاتها، فمن منا لم يكتب ويتحدث ويرى أن الشأن السوري خرج من يد السوريين، وأن الأطراف الدولية هي التي ستقرر كل ما يخصنا، بما في ذلك عدد أرغفة الخبز التي سنأكلها لاحقاً، وأن ألف باء الذكاء السياسي يتطلب منا فهم مصالح الأطراف الخارجية، كي نفهم أبسط قواعد العمل في السياسة، لا بل إن عبقرية التكتيك السياسي دفعت بعض الجهابذة للذهاب إلى إسرائيل، متوهمين أنهم سبقوا الآخرين في التكتيك السياسي، وأنهم طرقوا باب من تملك الحل والربط، مباشرة وبلا مواربة.

لم يكن مثقفو سوريا وسياسيوها يوماً على معرفة جيدة بما يفترض أنهم الأعرف به، وأقصد الواقع السوري، وكانوا دائماً أسرى ما يستحضرونه من كتب وتجارب الآخرين، محاولين تفصيل الواقع عليه، ولهذا لم تكن الثورة ممكنة برأيهم، وعندما أصبحت واقعاً لا يمكن نكرانه، لم يعرفوا كيف يقيسونها على رؤوسهم فاتهموها، أو تاجروا بها، أو طعنوها، واليوم يعيدون مرة أخرى استعمال مقاييسهم، لينجّموا لنا عن أيامنا القادمة.

إن كان هناك من ميزة يتفرد بها "مثقفو" و"سياسيو" عالمنا العربي عموماً، والمثقفون السوريون  خصوصاً، فإنها تتلخص بعبقريتهم في استحضار التبريرات المناسبة لكل الأخطاء التي اقترفوها بسوريا، تتلخص حكمة وعبقرية المثقفين والسياسيين السوريين بمدى قدرتهم على التبرير، فما من مشكلة في تكرار أخطائهم مراراً طالما أنهم قادرون على إيجاد التبرير لها مجدداً.

اليوم، وبعد سنوات من انكفاء الشارع السوري، بسبب من ركبوا على ثورته، وليس بسبب تبدل أهدافه، وبعد سنوات من ترّهات المعارضة وتحليلاتها، وبعد القناعة العميقة بأن الانتظار واليأس والعجز هي مرتكزات الهياكل الهشة التي تتحدث باسمهم، يقرر الشارع أن يستعيد كلمته، وأن يسعى بنفسه إلى هدفه، غير مبالٍ بكيفية تفسير وقراءة نخب الخيبات، لأسباب واحتمالات المرحلة الجديدة.

بالتأكيد يحاول السوريون عبر حراكهم منع تركيا من محاولة تعويم نظام بشار الأسد، لكن ماذا لو مضى أردوغان في سياسته وتقارب مع بشار الأسد، وحاول بالتعاون مع أطراف عربية أخرى تعويم نظام الأسد من جديد، لا سيما أن هناك من يرحب ويعمل لتعويم الأسد، وإذا تغاضت أميركا عن هذا التعويم، وهي المشغولة بصراعاتها الأهم؟

صحيح أن المعادلة في سوريا أصبحت شديدة التعقيد.. فالسوريون تعبوا من سنوات طويلة من القهر، والجوع، والبرد والدم، لكن ما ينساه الأتراك، وما يتناساه تابعو تركيا من السوريين، هو أن هناك خط أحمر لن يتراجع السوريون عنه مهما امتدت سنوات ثورتهم، وهو أنهم لن يعودوا مرة أخرى لحكم عائلة الأسد، وعندما تمضي تركيا في تقاربها مع بشار الأسد فإن للسوريين حديثا آخر، وأن أي تفويض يمنحه السوريون لن يشمل أبداً المصالحة مع بشار الأسد.

حتى اللحظة تبدو تركيا مصمّمة على خطة تقاربها مع بشار الأسد، لكن أيضاً لا تزال العوائق أمام خطتها مع روسيا في سوريا أكبر من أن يتم تجاهلها، فالأميركيون يواصلون إطلاق التصريحات الرافضة لما اتفقت عليه موسكو وأنقرة، والمتظاهرون السوريين الذين ذكروا حكومة أردوغان بالجملة التي لم تجرؤ على قولها هياكل المعارضة السورية الرسمية: (هي سوريا مو إسطنبول)، والأهم أن الجميع يشتغل في لحظة انشغال الإيراني بالنار المشتعلة في لباسه الداخلي، والذي قد يجد نفسه مضطراً إلى رفض إضعافه في ملف يشتغل عليه منذ عشرات السنين، ودفع من أجله عشرات مليارات الدولارات.

قد تكون المرحلة القادمة هي الأخطر في وقائع الحدث السوري، فالحلول التي تقترحها أطراف خارجية لاتزال تصر على تجاهل جوهر الصراع، وتجاهل الحد الأدنى من متطلبات استقرار الدولة السورية

عموما، وفي تجارب كثيرة سابقة، يعرف حلفاء أميركا أنه لا يمكن المراهنة على الموقف الأميركي، ولهذا ستحاول أنقرة الحصول على موافقة واشنطن، ومن أجل ذلك سيتوجه وزير الخارجية التركية إلى واشنطن، لكن في حال عدم موافقة واشنطن، فهل ستغامر أنقرة بانحياز واضح إلى موسكو، لا سيما أن روسيا المنهكة بحربها مع أوكرانيا سيكون ابتزازها سهلاً، وأن سوريا وبشار الأسد من ضمن الأوراق التي تقدمها روسيا.

قد تكون المرحلة القادمة هي الأخطر في وقائع الحدث السوري، فالحلول التي تقترحها أطراف خارجية لاتزال تصر على تجاهل جوهر الصراع، وتجاهل الحد الأدنى من متطلبات استقرار الدولة السورية، لن تعيش مهما تعددت الأطراف المتوافقة عليها، وستظل عرضة للانهيار إذا لم تكن تمثل الحد الأدنى من حاجات المجتمع السوري.

في كل هذه المصالح المتضاربة يتم تغييب السوريين.. فهل تنكسر المعادلات كلها عندما يعود السوريون إلى الساحات داخل سوريا وخارجها؟.. وهل يبادر السوريون إلى إعلان وثيقة سورية تنص على حقوق ثابتة للسوريين، ليس لأحد في هذا العالم أن ينتقص منها فيلجمون بها واجهات العار التي تدعي تمثيلهم؟!