ماذا سنقول لطلبة شرقي الفرات في اليوم الدولي للتعليم؟

2021.01.26 | 00:01 دمشق

serekaniye-perwerdeya-zimane-kurdi-6-660x330.jpg
+A
حجم الخط
-A

كعموم المحافظات السورية، تعرض التعليم في شمال شرق سوريا إلى تغيرات أصابت العمق والبنية التربوية. ما أثر على مجمل مفاصل القواعد الاجتماعية المختلفة، وتحول من مصدر شغف الأهالي لتعليم أبنائهم إلى مصدر قلق وخوف لمصير ومستقبل العملية التعليمية سواء للطلاب ضمن مدارس الإدارة الذاتية أو الحكومية منها. فالشعور بالاستقرار التعليمي هو جوهري؛ لإنجاز وظائف التربية والتعليم، خاصة في ظل مساع شعبية لبتر العلاقة بين أبنائهم وأي أيديولوجيا تلغي وجودهم ككيان أو قومية أو شعب.

ومع تشكيل مجانية التعليم الهاجس الأكثر أرقاً للأهالي، ولذوي الدخل المحدود بشكل أدق، فإن التعليم الرسمي المجاني هو الضرورة التي لا يُمكن للمجتمعات المحلية التنازل عنه. لكن من الجلي أيضاً أن هذا النوع من التعليم أصبح ينطوي على مخاطر جمة ليس أقلها أن خضوع العملية التربوية لتعدد السلطات المحلية، جعلتها تفتقد لما يؤمن للطالب مستقبله، وطمأنينة للأهالي، فيستعاض عنهم بالمدارس الخاصة وما يترتب عليه من رسوم تضاف إلى صعوبة العيش في هذه المنطقة.

وألقى تعقيد تقاسم النفوذ الأمني والعسكري، بظلاله على النمطية المتعبة في المدارس، خاصة أن التربية تحولت إلى نظام سياسي ملغٍ للآخر، ومع تبني الطالب للخطاب التعليمي الرسمي في جميع المشكلات موضوع الجدل، تحولت بذلك المناهج من طريقة الحصول على مخرجات تعليمية مدروسة ومخطط لها، إلى تكريس مُحددين متداخلين، إخضاع الطالب للسلطة وتوفير الطاعة، وابتعاده عن قرينه الآخر سواء داخل نفس المدرسة، أو مدارس أخرى تخضع لسلطة مختلفة. حيث ينقسم التلاميذ في عموم شرق الفرات إلى قطاعين، إحداها مختلطة من كل المكونات لدى مدارس الحكومة السورية الخاصة منها أو العامة، لكنها ألغت الارتباط العضوي والانتماء عبر إلغائها للغات الرسمية للشعوب غير العربية. وأخرى خاصة بمناهج الإدارة الذاتية وهي تقسم إلى صفوف خاصة لكل مكون يقع تحت سيطرتها، ويدرس منهاجاً بلغته الخاصة، بمعنى أن زملاء الصف الواحد هم من لون واحد فحسب. وهذا الأمر يخالف الطبيعة البشرية حيث يحرمهم من المخالطة التي يشتهونها بفطرتهم، مخالطة الأقران التي بدونها لا بد وأن تنقص من تربيتهم المدرسية بعض عناصرها الأساسية أهمها التعرف على الآخر المختلف، وشر الأمور "للذكر أو الأنثى" أن يشعر أنه غريب يختلف عن غيره من أقرانه، خاصة في المراحل التعليمية المبكرة، إذ لا تشابه في لغة التخاطب والحوار والتعليم ضمن الصف المدرسي وبالنتيجة فإن التلميذ، والطالب يجد نفسه ضائعاً ما بين مناهج الإدارة الذاتية، منقسمين ما بين المؤيدين للأفكار السياسية وطريقة الطرح والتدريس، ومابين غير المنتمين إليها. وكذلك الحال ضمن مدارس الحكومة، خاصة الكرد غير المتبنين لتلك الرؤى السياسية الرسمية، بسبب عدم شمولهم كشعب وقومية بتاريخ المنطقة وجغرافيتها ومشاركتهم الوطنية في بناء الدولة السورية، وبعد عشرة أعوام من الدماء، تستمر لغة الإلغاء والإنكار، فلا يستسيغ الطالب وذووه الأمر. والطلبة العرب الموالون لتلك السياسيات، أو المجبرون بالانخراط ضمنها حماية لحيواتهم، هم أيضاً يتحولون إلى متشربين إلى فكرة الإلغاء عبر الكتاب المدرسي.

الطلاب وأهاليهم لا يملكون قاسماً مشتركاً مع طلاب آخرين وأهاليهم في باقي المحافظات، وفي المحافظة نفسها وبل ضمن المدرسة ذاتها

وبذلك يكون أُسّ الخلاف بين الأجيال قد نما وكبر، ويبتعدون بشكل مباشر عن القيام بنقاش حر، فتتحول القومية إلى رمزية تعصبية عبر الانشطار بين أبناء القومية الواحدة، أو المختلفة ضمن تلك المدارس. فالطلاب وأهاليهم لا يملكون قاسماً مشتركاً مع طلاب آخرين وأهاليهم في باقي المحافظات، وفي المحافظة نفسها وبل ضمن المدرسة ذاتها. فتغدو بذلك تصوراً وطنياً مشتركاً غصاً عميقاً على طريق الشراسة الفكرية والعقائدية والإيديولوجيات.

ووفق تعبير برتراند رسل "مجموع المعارف الإنسانية وتعقد المشكلات البشرية في ازدياد مستمر، ومن ثم يحتم على كل جيل أن تنفتح طرائقه في التربية إذا شاء أن يدبر الوقت لما هو جديد". بيد أن المشكلة المؤرقة للآباء المهتمين بمستقبل الفكر والثقافة للطالب، بدأت تُفصح عن نفسها مع بدايات الحِراك الشعبي في 2011، حيث فقد المدرس قيمته التعليمية في مدارس الحكومة السورية، وانقسامهم ما بين المروجين للفكرة الرسمية والأدلجة، أو المؤيدين للحدث السوري، أو من فضل الهجرة وترك الطالب دون مدرسين مختصين، وهو الحال عينه مع مدارس الإدارة الذاتية ما بين مدرسين غير أكفاء خاصة في الدفعتين الأولى والثانية وخلق جيل تدريسي قائم على اكتساب لقب/صفة مدرس عبر سلسلة دورات، أو الملزمين بالانخراط ضمن هيئة التربية، لأسباب معيشية مادية، أو المقتنعين بذلك، وفي كل منها ثمة من يروج للفكرة التدريسية بطريقة تحمل مخاطر جمة على الطالب والمعلومة التي يتلقاها. ومع غياب الرقابة الصارمة على المدارس، فإن مهمة المدّرس ربما تتحول من ناقل للمثل العليا إلى ما يفكر به أو يُلقن سياسياً وحزبياً.  وتالياً أفرزت الأزمة خطر فئات تربوية ناقلة للمهارات وحاملة للقيم التربوية، لا يمكن لنا النظر لها جميعاً بالسوية ذاتها. وإن لم يكن بالشكل الكلي المطلق لكن إسقاط خطر التطورات الميدانية والأمنية والعسكرية على التعليم يرفع من نسبة ذلك الخطر خاصة وأن مخرجات التعليم هي الحجر الأساس الذي تبنى عليه الوظائف الأخرى في مجمل مفاصل العملية السياسية والحوكمة والحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية وصولاً إلى دولة الرفاهية.

هذه المخاطر تزداد بشراسة في المراحل التعليمية الأولى، وبشكل أدق فإن الأطفال في مراحل الحضانة والروضة والصفوف التدريسية الأولى، ليسوا أخياراً بالفطرة ولا أشراراً، فهم يولدون وعقولهم "صفحة بيضاء نكتب عليها ما نشاء" وفقاً لتعبير "جون لوك" بمعنى أن الغرائز والانعكاسات المجتمعية ونواتج العادات تتأثر بالبيئة التدريسية والتعليمية، والمُلقن والطرائق والأساليب التي يتبعها في إيصال الفكرة والمفاهيم.

إسقاطات العملية التربوية السليمة على الواقع العملي المعاش تربوياً وتعليمياً وعلى المناهج والمدرسين في شمال شرق سوريا، والانشطار المجتمعي ما بين منهاج صرف باللغة العربية خاضع لسيطرة توجهات الحكومة السورية، وآخر باللغة عينها خاضع لترتيبات وتنسيق هيئات ومنظمات الأمم المتحدة من يونيكسو ويونيسيف، ومنهاج ثالث باللغة الكردية، وعدد ضئيل جداً من مُرتادي المدارس يطبق منهاج الإدارة الذاتية باللغة العربية، يدفع الباحثين عن حل شامل ومتنامٍ، يؤكد تكور الحل حول منهاج وطني يحمل نزعة رفع العظمة الوطنية الهدف الأسمى للتربية، وتخريج مواطنين مخلصين للدولة ذات الهويّة الجمعية، وتربية عواطف نافعة للتلاميذ عبر تأكيد التعددية اللغوية والثقافية في تلك المناهج. فالمهمة الأبرز والأعظم للتربية هي تحويل مجموعة من البشر المتباينين إلى أمة متجانسة. فالمخاوف الحالية، تتجه لتكون الأساس للمخاوف المستقبلية، وهي عينها التي تربت وكبرت عليها الأجيال في الماضي. مخاوف لا تتبدد عبر جملة من التبريرات الخطابية والشعاراتية، فهي تتعشعش في اللاشعور، فيتحول الخوف إلى غضب وقلق كبيرين على مستقبل أخطر شريحة يتم التلاعب بها، خاصة وأن الباعث الفكري للأهالي جعل شعور الخوف ينقسم إلى ثلاث محددات متداخلة، أولها: مصير ومستقبل شهادات أبنائهم. وثانيتها: نوعية المعارف التي يتلقونها. وثالثتها: مخاطر تحول المدارس والعملية التعليمية إلى مدماك للتفرقة المجتمعية.

نستطع القول إن شمال شرقي سوريا تعيش أرقاً تعليمياً تربوياً، وهي تبحث عن الحلول والإجابات لجملة من الأسئلة التي تشكل ضواغط فكرية وعقلية وحياتية لا تنفصل عن همومهم التي تكبر بوتيرة متزايدة

الحيرة والخوف والقلق، عناوين بارزة لقسم ليس بالقليل لمن عرفناهم عن قرب، وهم من الفئات التي استفادت من شبكة العلاقات الناشئة الاقتصادية أو الإعلامية أو...إلخ التي وفرها قربهم من الإدارة الذاتية ولا يجدون حرجاً من امتناع إرسال أبنائهم إلى مدارسها.

في اليوم الدولي للعليم، نستطيع القول إن شمال شرقي سوريا تعيش أرقاً تعليمياً تربوياً، وهي تبحث عن الحلول والإجابات لجملة من الأسئلة التي تشكل ضواغط فكرية وعقلية وحياتية لا تنفصل عن همومهم التي تكبر بوتيرة متزايدة. أسئلة من قبيل، ماذا ينبغي أن نفعل؟ كيف يجب أن يتعلم الطفل وأيُّ منهاج لا يلغي لغته ولا يفصله عن أقرانه ولا يمنعه من اكتساب المهارات التعليمية والتربوية؟ كيف الحل لدمج التلاميذ والطلاب كلهم في هيئة تعليمية واحدة، مع تشعب الجهات التربوية مابين الإدارة الذاتية للمدن الكردية، واليونيسكو للمدن والمحافظات العربية (الرقة، دير الزور، الطبقة) ومابين المناهج التربوية للحكومة السورية في المربعات الأمنية والتجمعات المدرسية في مجمل تلك المناطق؟