ماذا تبقى لنا؟

2022.07.25 | 06:07 دمشق

ماذا تبقى لنا؟
+A
حجم الخط
-A

لم تترك مؤسسات هذا العالم الرسمية أمام الإنسان السوري أي خيارات إلا الذي سيضطرّ إليه. فالسوري بطبعه طيّب مجتهد ذكي غيور شهم مسالم بنّاء مجدد.. إلى آخره من الصفات التي تساهم ببناء الحضارة البشرية. ويُثبت ذلك أن مسقط رأسه مكانٌ شَهِدَ تراكم عطاءات الحضارة البشرية. فهو يكره الخراب والإرهاب والانتقام، لأنها عكس طبيعته الخيّرة. من هنا، وبعد عقود من استبداد سلطته، وإجرامها الفريد من نوعه في العقد الماضي، والمساهمة الهدامة لكل مَن تدخل في الشأن السوري، لم يعد أمامه إلا خيار الاضطرار؛ وهو الرد بلغة ذاك الذي أوصَلَه إلى هنا.

رغم بشاعة مسلك "نظامه" وإجرامه باستخدام البراميل والكيماوي والاعتقال والتشريد والكذب، واستدعاء ميليشيات القتلة وقوة عظمى خارجية بأعتى صنوف الأسلحة؛ رَضيَ السوري بحلٍ سياسيٍ يترجم القرارات الدولية التي تركز على وقف العنف واستحضار السياسة لإنهاء المأساة؛ ومع ذلك تلاعب "نظامه" بالحل السياسي، وأخذ المجتمع الدولي دور إدارة القضية، لا إيجاد حل لها. فكانت القرارات الدولية بلا أنياب، وكان كلام الأصدقاء المعسول، وكانت المراوغات، واستمر قهر السوري واعتقاله وتشرّده وذلّه وفقره؛ واستمَرَّ القاتل طليقاً؛ والكل يتفرج.

مَن تصدى لقيادة قضية السوريين فيتساقط بين الزلة والزلة بتأثير الغباء والإقصاء والتبعية الاضطرارية والاختيارية أحياناً

في مستنقع الدم هذا، وَجَدَ الفرقاء المتدخلون في القضية السورية فرصتهم الذهبية لتحقيق مصالحهم وتصفية حساباتهم مع بعضهم بعضاً، ومع قوى أخرى؛ فتحوّلت بلد السوري إلى ملعب بلا كلفةٍ لإنجاز كل تلك "الأجندات" المتناقضة، وعلى حسابه. فإسرائيل تعيش عصرها الذهبي، بتمزيق محيطها وزوال خطره المفترَض عليها، وروسيا تستشعر عودة إمبراطوريتها كقطب فاعل في السياسة العالمية، وإيران تستمر بمشروعها الخبيث عبر التهديد والتحكم بمصير محيطها، وتركيا تزدهر، وتقضي على ما تعتبره تهديداً لأمنها الوطني، وأميركا تستمر بسياقة الجميع من الخلف، وكأن الجميع يعمل تحت إمرتها، والحكومات العربية تلقِّن شعوبها عبر القضية السورية دروساً في الحذر والنوم الأزلي؛ أما مَن تصدى لقيادة قضية السوريين فيتساقط بين الزلة والزلة بتأثير الغباء والإقصاء والتبعية الاضطرارية والاختيارية أحياناً؛ والسوري-السوري صاحب القضية يستمر وحيداً وحيداً يذبحه النكران والحالة المأساوية.

لم تعد معاناة السوري على كل الأصعدة خفيّة على أحد، وما من لزوم لتكرارها؛ ولكن أمام هذه الجبهة العالمية، ما الذي تُرك للسوري أن يفعل؟ لجأ إلى ربّه منذ البداية؛ وما زال يقول: "ونعم بالله"، تكريساً لعبارة السوري الأساسية: "يا الله، ما لنا غيرك، يا الله". ولكن /ومعذرة أقول هذا/ ما الذي جرى؟ لقد ابتلاه ربه بكل أولئك الذين ذُكروا حتى الآن؛ وابتلاه بمعارضة خنقها هؤلاء، وخنقت ذاتها أحياناً؛ وابتلاه بحالة عطّلت قدراته الخلاقة والإبداعية، ليستنبط حلاً لمأساته، فأصابه الفقر والإحباط، ليستوي عنده الموت مع الحياة؛ فلا إذا هَرَبَ من واقعه (وهو عز طموحه الآن)، يستريح، ولا إن بقي حيث هو، ينجو.

والآن، والسوري يرزح تحت كل هذه الأحمال، وفي ظل ضيق حاله، وتبعثر مجتمعه؛ وأولئك المتسببون بحاله على درجة عالية من القوة والحصانة بضوابط وتشريعات حدَّدوها هم أنفسهم لخدمة أغراضهم حصراً؛ ماذا بإمكان السوري أن يفعل ليدافع عن نفسه؟ وهل بإمكانه مواجهة كل هؤلاء؟! وكي يكون السؤال أكثر تحديداً، وأكثر جدوى، وأكبر فاعلية؛ هل على السوري أن يواجه كل هؤلاء؟! والجواب البسيط والمباشر، لا.

أليس بوتين وعصابة حكمه هي التي جعلت السوري وبلاده حقل تجارب لأسلحتها، ولاحتلال بلده سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؟!

بداية، إني أرى في هذا السوري طائر فينيق، وما زلت أعتقد أننا ما أوتينا من العلم إلا قليلا، وما إن يشتدّ الظلام، حتى يبزغ الفجر. وهذا ليس عواطفَ أو شعراً أو بوحاً وجدانياً، وإنما أراه كما أرى هذه الحروف. أمام السوري كل هذه الحقائق، وبيده ملايين الوثائق، وعنده استوى الموت مع الحياة، والكل لا يعنيهم شأنه إلا شفقة؛ فماذا تبقى له؟ ومَن يلومه إن هو دافع عن نفسه؟ أوليس "حق الدفاع عن النفس" شرعة لا يستطيع أحد رفضها؟ كم إثبات يحتاج إليه وبيده مليونا وثيقة على إجرام منظومة الاستبداد وحُماتها ضده؟

أليس بوتين وعصابة حكمه هم الذين جعلوا السوري وبلاده حقل تجارب لأسلحتهم، ولاحتلال بلده سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؟! ألا يعتَبِرُ الإيراني دمشق، العاصمة السورية ملحقة بـ "قم"، وسوريا ولاية إضافية في دولة الملالي؟! وبناء على ذلك، لا بد أن يركّز السوري جهوده على هذا الثلاثي؛ فخطر هؤلاء عليه وجودي: عصابة الاستبداد الأسدية قالت ومارست شعارها: "أحكمها أو أدمرها"/ و"الأسد أو لا أحد"/. والروسي كان ولا يزال يتبع سياسة "الأرض المحروقة"، ومجازره للآن مستمرة (بالأمس كانت مجزرة أطفال جبل الزاوية). والإيراني يمزق حياة السوري وبلده أيديولوجياً، ويعتبرها مستعمرة لميليشياته الحزبلاتية وغيرها.

ويبقى السؤال الأهم كيف يمكن للسوري أن يفعل ما عليه؟ لا بد من أن ينظّم السوريون أنفسهم؛ والبداية من تنظيم الذات ونشر الوعي، وإزالة اليأس والإحباط، والتسلُّح بالصبر، وحسن الظن، وتحديد السمت والهدف. إنه العودة إلى الحياة، واستعادة الحق. والله حق، وينصر عبده إن هو سعى. أما على صعيد عملي ميداني، فلا بد من تفعيل استراتيجية "الأشباح"، فهي المفتاح العملي للعودة إلى الحياة والحرية، وذلك ليس للنشر؛ ولكن لا بد لطائر الفينيق أن يقوم.