ماذا بعد احتفاليات الثورة؟ متى تصبح مبادئ الثورة السورية قضية؟

2021.03.31 | 06:40 دمشق

sy.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يُخفي كثير من السوريين فرحتهم بالمظاهر الاحتفالية المميزة التي انتعشت بها النفوس في الذكرى العاشرة للثورة السورية؛ إذ لا مجال لإنكار الانتكاسات التي حصلت سياسياً وعسكرياً واقتصادياً خلال السنوات الأخيرة، حتى زُعزع الإيمان بالثورة وأهدافها.

وعلى التوازي نشطت أقلام كثيرة في تخليد الذكرى؛ ولعل مجلداً يضيق بما نُشر من مقالات ومدونات شرّقت وغرّبت في المراجعة والتحليل، وهذا مظهر إيجابي آخر بغضّ النظر عن تقييم المحتوى؛ لاسيما عند النظر إليه من زاوية قلة التدوين والتقصير بحق الثورة السورية في الكتابة والتوثيق الصحيح.

وجاءت أكثر التحليلات في اتجاه إصدار الأحكام فيما عُدّت مواطن خلل وقصور وخطأ؛ لكنها أحكام بطبيعة الحال والموقف غير مسلَّم بها، لأنها تنطلق من خلفيات أصحاب التحليل والمنصات الصادرة عنها، فلا تخرج عن الفرز والتصنيف بين أصحاب النعيم وأهل الجحيم!

ونحن – أعني السوريين – اليوم بأمسّ الحاجة للخطاب الجامع؛ وما أكثر الخطابات التي يُزعم فيها الجمع وهي في عنوانها ومحتواها أدوات تفرقة وهدم! وفي إطار الاستفادة من تجارب سبقتنا على طريق التحرّر المنشود؛ استوقفتْني ورقة صدرت عن "مركز الحوار السوري" بعنوان: نحو تحويل مبادئ الثورة إلى قضية في أذهان السوريين – دروس مستفادة من التجربة الفلسطينية.

ولعل أول ما يجذب فيها تقدُّم كلام غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" خلال محاولته دراسة سلوك المجتمعات بعد الثورات وتفسيرها؛ فهو يرى أنه يمكن للمجتمعات أن تتبنى أفكاراً جديدة وتتمسك بها، مثل الحريات، ثم تتمرد عليها لاحقاً؛ لأن أفكار التغيير الجديدة لم تترسخ لديها، ولم تغيّر وعيها تجاه الأفكار الراسخة المستقرة التي نشأت عليها دينياً أو اجتماعياً أو سياسياً.

فهذا تحليل دقيق لا يحتاج أمثلة تصدّقه، فهي طافحة في مسيرة ثورتنا خلال عشر سنوات؛ لكن الأهم أن هذا مما يُوجِب على قادة التغيير أو الفعل الثوري العمل على الاستفادة من الثورات – وهي أحداث خاطفة تترافق مع لحظات وعي مؤقتة - والعمل على الحفاظ على تلك الطبقة الهشّة من الأفكار الجديدة، وتعميقها وغرسها لتتحول إلى أفكار راسخة عميقة، وذلك للوصول إلى جيل تكون أفكاره الراسخة مزيجاً بين الأفكار القديمة والجديدة، وبالتالي تكون قابليته للتغيير أسهل وأسرع.

ودون الغرق في الإطار النظري والفلسفي لمعنى "قضية" و "مشكلة" نجد أن الثورة السورية تستحوذ الأركان التي ذكرها الباحثون للخروج بحالة ما من تِيه "المشكلة" إلى برّ أمان "القضية"؛ فالقضية كما تصفها الورقة المشار إليها: مشكلة تحمل بُعداً إنسانياً، وخرجت عن إطارها المحليّ، وغيّرت أوضاعاً معينة في المجتمع تحتاج إلى تصحيح، وتآزرت مع مجموعة أخرى من المشكلات حتى شغلت الرأي العام، وترسّخت في الوعي الجمعي وخلقت لحامليها حالة انتماء، وليس لها حلّ قريب؛ وما أكثر الشواهد على كل ما ذُكر!

ولعل أحداً يهزأ بالفروقات بين تصنيف "مشكلة" و"قضية" ويراها لغواً في ثورة تضجّ بالدماء والآلام؛ فلا يُجاب إلا بالتذكير أن مما أضاع التضحيات وبدّد الدماء والإنجازات عبث الفاعلين بنا وتضييع معارضتنا بين ألفاظ لم يدققوا في معانيها، حتى هوَينا من "هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات" عام 2012 في جنيف1، إلى "حكم انتقالي غير طائفي" في فيينا، وحتى حصر الحل السياسي بلجنة دستورية! وهوتْ أماني السوريين بعدالة انتقالية تُنصف الضحايا وذويهم إلى "عدالة تصالحية" لم تكن زلّة لسان من المندوب الأممي!

فَلْنرفضْ أي توصيف للثورة السورية بأنها "حرب أهلية" أو "حرب طائفية" أو "تمرّد مسلّح" أو "صراع على السلطة" أو "أزمة" أو "مشكلة"؛ فلكل توصيف منها ظلال تضيع فيها أهداف الثورة وتضحيات أبنائها.

التركيز على العمل الشعبي التعبوي الجماهيري في المقاربة مع القضية الفلسطينية لترسيخ مبادئ الثورة السورية قضية في أذهان السوريين

لكنّ المشهد معقّد بلا شك، و"القضية الفلسطينية" التي لم نعرفها لعقود في مناهجنا وإعلامنا إلا أنها "قضية" تختلف عن "القضية السورية" في عدة نقاط؛ إلا أنها في المقابل تتفق معها في أمور كثيرة: التطلّع للتحرر، والتمرّد على القهر، والتضحيات الكبيرة، وفي الأدوات التي استعملها الطرف الآخر لمواجهتها من قتل وقصف وتهجير وتعذيب، وفي حالة اللجوء والتشرد، وفي أثر العامل الخارجي، وحالة التيه السياسي التي خلقت انقساماً حاداً اجتماعياً وسياسياً.

ومن أجود ما في الورقة التركيز على العمل الشعبي التعبوي الجماهيري في المقاربة مع القضية الفلسطينية لترسيخ مبادئ الثورة السورية قضيةً في أذهان السوريين.

فمما ذُكر فيها ضمن ملامح إستراتيجية العمل الشعبي للقضية؛ ونحن بأمسّ الحاجة إليه: ترسيخ حقّ المقاومة بأشكالها كافة، دون أن يعني الحرص على الحل السياسي تجريم العمل العسكري، لاسيما مع نظام مستبدّ جمع على الشعب السوري مجرمي العالم والمرتزقة من جنسيات شتى، ومن باب أَولى في الوطنية والصدق عدم تجريم العمل المسلح الذي دخله السوريون بالإكراه بسبب إجرام النظام وقمعه.

وإحياء مفهوم حق العودة؛ ولا عودة في ظل بقاء الأسد وزمرته، وهذا ثابت وطني ثوريّ يحفظ حقوق أكثر من 12 مليون سوري نصفهم مهجَّرون في الداخل ونصفهم الآخر لاجئون خارج سوريا.

والتركيز على الثوابت والأمور الجامعة؛ من نحو ما أصدره المجلس الإسلامي السوري في وثيقة المبادئ الخمسة ثم في ركائز الهوية السورية، بعيداً عن الهويات القاتلة التي تسعى جهات سورية وخارجية لتصديرها وتحميلها قسراً علينا.

وصناعة الكوادر؛ وهذا مما قصّرت فيه الجهات الثورية كلها عسكرية وسياسية وإنسانية، حتى بات تدول السلطة في المؤسسات الثورية بين أفراد معدودين وكأن الثورة السورية على عظمتها عجزت عن إنجاب غيرهم!

والتركيز على فئات المجتمع كلها؛ حتى لا يغيب عنا أن مصابي الحرب أكثر من مليونَين، وأن عدد الأطفال المحرومين من التعليم أكثر من 2.45 مليون، وأننا جميعاً نشعر بآلام المرأة السورية ونعي تضحياتها؛ وليس مَن يتاجرون بآلامها لتجريم المجتمع كله والمطالبة بالمروق التام عنه!

وكذلك ضبط الرواية حول القضية؛ وما أكثر الاختلاف في توثيق ما حصل! بل نختلف في تحديد منطلق الثورة فكيف في تفاصيلها؟!  

ومواكبة الحدث الميداني وصناعة الحدث السوري عالمياً؛ لنرى المظاهرات المؤيدة لمطالب الشعب السوري في شوارع العواصم العربية والغربية على نحو ما نراها لعقود تأييداً للقضية الفلسطينية.

لكنّ هذه الاستراتيجيات المهمة في العمل الشعبي لابد لإنجاحها من أدوات، وقد أجملته الورقة البحثية بالآتي: التوثيق؛ وهو على أنواع: توثيق عام لضبط رواية أحداث قضيتنا السورية، وتوثيق خاص للأحداث المهمة كالاستهداف بالكيماوي وعمليات التهجير القسري واستهداف المنشآت التعليمية والصحية وغيرها، وتوثيق التراث الذي تمتد إليه أيادي لصوص الحضارات للسرقة والتخريب والعبث، وتوثيق الانتهاكات لضمان تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب، وتوثيق ما في المخيمات تلك السجون التي حُشر فيها ملايين السوريين داخل سورية وخارجها، والتوثيق الشفوي الذي يجب الاهتمام به فكثير من شهود الثورة وأحداثها قضَوا دون تقييد ما عندهم فيها.

والكتابة الأدبية؛ ولا تزال أعمال كنفاني وغيره تخلّد القضية الفلسطينية على مدى التاريخ، وفي سوريا أدباء وكتّاب لابد من رعاية مواهبهم والعمل على نشر أعمالهم تخليداً لثورة الكرامة والقضية السورية.

والمناهج الدراسية؛ وقد آن منذ سنوات أوان الخروج بمناهج تليق بالقضية السورية، بعيداً عن اجترار مناهج الأسد والتعديلات التجميلية فيها.

والفن الشعبي؛ والفنون الفلسطينية تنتشر في دول العالم كافة، وعلى السوريين إظهار الفنون الشامية الأصيلة بمختلف أشكالها لإظهار وجه سورية الغنيّ المتنوّع الأصيل.

والإعلام الإعلام؛ وما نراه من قنوات حرّة تدعم القضية السورية لا يكفي، فأين قنواتنا الناطقة باللغات الأجنبية؟ وأين الصحف والمجلات بمختلف اللغات؟ وما الذي تشغله القضية السورية من مساحة في وسائل التواصل الاجتماعي؟ أسئلة تضع السوريين جميعاً في مواجهة عمل شعبي تعبوي كبير علينا النهوض جميعاً للعمل فيه.

لابد من ضبط إيقاع العمل السياسي الوطني وفق أوجاع أهل "الداخل"، دون أن تصبح الزيارة للداخل لتبييض الصفحات وتزيين البروفايلات الشخصية

ومن جميل ما جاء في الورقة استئناساً بالقضية الفلسطينية ثنائية "الداخل والخارج"، التي كانت خلال عشر سنوات أقرب للجدلية والضدّية منها للثنائية؛ مع أن عاقلاً لا ينكر أهمية نشاط "الخارج" في دعم "الداخل" منذ العام الأول للثورة، وهذا واجب لابد من متابعة الجهود وتكثيفها فيه، لضمان استمرار "الداخل" في اتقاد جذوة الثورة ودوامها؛ دون أن يتجاوز أهل "الخارج" حدود الأدب والوطنية في تعاملهم مع قضايا الثورة، ولاشك بوجود خلل لا يُعذرون فيه، فلابد من ضبط إيقاع العمل السياسي الوطني وفق أوجاع أهل "الداخل"، دون أن تصبح الزيارة للداخل لتبييض الصفحات وتزيين البروفايلات الشخصية بها فحسب على طريقة مرشحي الأنظمة المستبدة عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية.

ولا شك أن عوائق وتحديات كثيرة بسطت الورقة فيها الحديث تعترض طريقنا للوصول بالثورة السورية إلى أن تكون "قضية" لا تنمحي من أذهان السوريين؛ فالقضية الفلسطينية لم تصبح كذلك إلا بعد سنوات، وربما عقود.

لكنّ الثابت الأهم أن العمل وفق الاستراتيجيات المذكورة، والاستثمار الأمثل للأدوات المساعدة فيها؛ هو ما يجعلنا نقترب أكثر فأكثر من تأكيد عدالة قضيتنا السورية.