مادة تدريسية أسدية لاغتيال الذاكرة السورية

2021.12.27 | 05:07 دمشق

wzart-altrbyt-alswryt1-780x405.jpg
+A
حجم الخط
-A

لفتني مؤخراً قرارٌ من وزارة ما يُسمى "التربية" في منظومة الاستبداد "الحاكمة" في دمشق بتدريس مادة بعنوان "الحرب على سوريا" وأسبابها وعقابيلها. تفوح من هذا المشروع رائحة التزوير والتشويه لأدمغة مَن بقي رهينة بين براثن ومخالب الاستبداد، وتُقَدِّم صك براءة لمن أجرم بحق ملايين سوريا. ستكون "المؤامرة الكونية" و"الإرهاب" و"الرجعية العربية" و"بعض السوريين الخونة" وراء تلك الحرب على "النظام التقدمي الفاضل المقاوم الممانع"، بهدف منعه من تحرير الجولان والقدس، ولعرقلة الرخاء والازدهار والحرية التي كانت تنعم بها سوريا الأسد.

لن تحتوي فصول تلك المادة على أية إشارة للبراميل والطائرات والكيماوي وأفران سجن صيدنايا. سيبقى مخفياً عن التلميذ السوري وأهله أن سلطة الأسد أساساً بَنَت استراتيجيتها في حُكم سوريا على المواجهة مع شعبها، لا على العيش المسالم كما حال السوريين. لن تذكر مادة التدريس تلك أن صرخات الحرية في مظاهرات مدنية استمرت لأشهر قد تمت مواجهتها بالنار والرصاص الحي من قبل مخابرات وجيش "النظام".

سيكون هناك إشادات وقصائد بجيش الأسد و"الجهات المختصة/ المخابرات"؛ ولن تذكر أن طياري حماة الديار دمروا بصواريخ طائراتهم وبراميلها مباني مدن سوريا وبلداتها؛ وأن من كان يرفض الاشتراك أو إطلاق النار من هذا الجيش، كان يُقتَل بالرصاص أو في معتقل تحت التعذيب. لن يكون هناك حديث عن مئات وربما آلاف حالات الاغتصاب في معتقلات منظومة الاستبداد.

سيتم تقديم إيران، بحكم تغلغل مخالبها في الحياة التعليمية والثقافية السورية، كدولة شقيقة وحليفة في مواجهة المؤامرة الكونية

سيذكرون للتلميذ السوري الرهينة قصص "أَكَلَة الأكباد" الإرهابيين الداعشيين وحرقهم للطيار الأردني وأقفاص حديد "النصرة"؛ ولكن لن يكون هناك ذكرٌ لباصات منظومة الاستبداد التي كانت تنقل "داعش" في مختلف بقاع سوريا، ولن يكون هناك ذكرٌ لتهديد السويداء بداعش وإرسالها إلى هناك لتقتل أكثر من 250 مدنيا بريئا من أهالي السويداء، ولن يذكروا له أن مَن كان يتعامل مع أمرائها هو المخابرات الأسدية، وأن عدادها الأساسي كان ممن أطلقهم نظام الأسد من سجن صيدنايا، وممن أرسلهم المالكي من العراق. ولن تذكر المادة أن "النصرة" لا علاقة لها بالمعارضة أو الثورة السورية، بل إن ارتباطها الأساسي وخدماتها لمنظومة الاستبداد ولإيران حصراً.

سيتم تقديم إيران، بحكم تغلغل مخالبها في الحياة التعليمية والثقافية السورية، كدولة شقيقة وحليفة في مواجهة المؤامرة الكونية. سيُقال فيها ما لم يقله مالك في الخمرة؛ فهي التي دعمت عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. ولكن لن يكون هناك ذكر لمصانع المخدرات التي هتكت بها إيران روح شباب سوريا، ولا للنفس الطائفي الذي مزقت به بنية المجتمع السوري، ولا إصرارها على الترحيل والتغيير الديموغرافي، ولا لقوس التشيّع من ضاحية الجنوب اللبناني حتى قُم، ولا لعرقلة أي حل سياسي يمكن أن ينقذ ما تبقى من سوريا، ولا لمصافقتها مع الغرب على حساب المصير السوري في مشروعها النووي.

سيقدمون روسيا للجيل الضحية في تلك المادة المشؤومة كدولة صديقة حليفة حريصة على وحدة واستقلال وسيادة سوريا؛ ولكنهم لن يأتوا على ذكر طموح بوتين، وأن روسيا ليست جمعية خيرية، ووجدت في "نظامهم" الأداة المناسبة لتحقيق مصالحها. لن يأتوا على ذكر ما فعلته "سوخوي" بوتين بأجساد أطفال سوريا وكم مشفى ومدرسة وسوق ومبنى قصفت! ولن يذكروا له استعراض قادة روس لأكثر من250 صنفا من الأسلحة تمت تجربتها على أرواح السوريين، وكم ضابط روسي كسب خبرة عسكرية على أرض وأرواح السوريين.

لن يكون هناك أية إشارة إلى أن روسيا التي تدعي الحرص على "وحدة الأرض السورية"، هي أول مَن طرحت عبارة "سوريا المفيدة"، ولن تذكر المادة الدرسية أن روسيا "الحريصة على سيادة سوريا" هي التي كانت تشحن "رئيس سوريا" لإعطائه التعليمات في موسكو؛ ولا كيف منعته، وأوقفته متفرجاً على خطاب بوتين بقواتِه على الأرض السورية. ولن تتضمن المادة الجديدة كيف وضعت روسيا وإيران يدهما على كل منشأة اقتصادية استراتيجية في سوريا.

لن تذكر المادة أن حالة القهر والعوز والذل التي يعيشها السوري هي نتاج لابتلاع منظومة الاستبداد لخيرات سوريا لعقود وإيداعها في بنوك العالم

سيقولون للتلميذ الضحية إنه حتى الأمم المتحدة كانت متآمرة على نظام "الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة"؛ ولهذا لم تتيسّر العملية السياسية. وأن الوضع الاقتصادي هو نتيجة لمقاطعة وحصار سوريا التي "تريد حلاً سياسياً"، إلا أن أميركا وإسرائيل وتركيا والسعودية وقطر مشتركون بالمؤامرة، ويريدون الخراب لسوريا واقتصادها وشعبها، ويعرقلون الحل السياسي بتدخلاتهم ولعبهم بأداتهم المعارضة العميلة والخائنة. لن تحتوي المادة ذكراً لمن اختار الحل العسكري من اللحظة الأولى لصرخة الحرية السورية، ولن يكون هناك ذكرٌ لشعار: "الأسد أو نحرق البلد" أو "نحكمها أو ندمرها".

لن تتضمن المادة أن العقوبات يتم رفعها بمجرد الدخول الحقيقي لـ "النظام" في العملية السياسية. لن تذكر المادة أن حالة القهر والعوز والذل التي يعيشها السوري هي نتاج لابتلاع منظومة الاستبداد لخيرات سوريا لعقود وإيداعها في بنوك العالم، ولا لانتشار حيتان المال الجدد المتمتعين بالمأساة السورية، ولا إلى التسبب بالفقر والذل والمهانة بين كل أهل سوريا تقريباً.

سيتم إقحام عملية التزوير هذه في المنهاج التعليمي لمنظومة الاستبداد؛ ولكن ستكون مفضوحة تماماً. فمهما وصل الإنسان إلى درجة من الاستلاب والانسحاق أمام آلة الاستبداد، ومهما كانت البرمجة الدماغية الإكراهية قوية؛ إلا أن الواقع والحقيقة كالشمس، لا يمكن إخفاؤها بغربال. إن مجرَّد تفكير الصغير والكبير في سوريا بمغادرة مكان ليس له غيره، ومجرد رؤيته لاستمرار منظومة الاستبداد بممارساتها الإجرامية ذاتها أمام عينه، وتزييفها كل شيء تاريخياً، كفيل بفضح هكذا مادة تدريسية مبنية على التزوير؛ وسيكون الفشل مصيرها ومصير أصحابها؛ ويستحيل أن تُغتال الذاكرة السورية.