ما يشبه المدرب الهولندي لما يشبه المنتخب الوطني في شبه الدولة السورية

2022.08.26 | 12:47 دمشق

مارك فوته
+A
حجم الخط
-A

منذ بضعة أيام وقّع نظام الأسد عن طريق الاتحاد الرياضي العام في سوريا عقداً مع المدرب الهولندي "مارك فوتّه" لقيادة فريق منتخب كرة القدم للشباب.

يبدو الخبر في ظاهره شأناً رياضياً بحتاً لا علاقة له بالسياسة، فكثيراً ما استقدمت "شبه الدولة" السورية قبل الثورة ما يشبه الخبراء في كل المجالات، وكان للروس والإيرانيين حصة الأسد في تلك التعاقدات نظراً لكونها اتفاقات مع الأسد نفسه لا مع الدولة، ونظراً لعلاقات التبعية الخفية التي كانت تربط سوريا بالدولتين المذكورتين حينذاك، قبل أن تتحول سوريا علانية إلى ولاية مزدوجة الانتماء، مزدوجة الولاء تتقاسم الحكم فيها كل من إيران وروسيا.

وفي محاولة لكسر الصورة النمطية ثنائية التابعية، يحاول نظام الأسد اليوم أن ينوع تعاقداته في سعيه الحثيث لتطبيع نفسه وتطبيع علاقته بجمهوره قبل تطبيع علاقاته مع المجتمع الدولي، ولذلك فهو يلجأ إلى مداورات يعتقد أنها ستنعكس إيجاباً عليه ويمكن أن تغسل سمعته الملطخة بدماء مليون سوري، وتحوّل ركام الدمار إلى ناطحات سحاب.

لا يمكن انتزاع واقعة التعاقد مع المدرب الهولندي من سياق المحاولات الحثيثة للنظام لاستقطاب المشاهير، بصرف النظر عن مؤهلاتهم وجنسياتهم ومدى المساهمة في تطوير المرافق موضوع التعاقد، لأن ذلك آخر ما يهم الأسد ونظامه

لا يمكن انتزاع واقعة التعاقد مع المدرب الهولندي من سياق المحاولات الحثيثة للنظام لاستقطاب المشاهير، بصرف النظر عن مؤهلاتهم وجنسياتهم ومدى المساهمة في تطوير المرافق موضوع التعاقد، لأن ذلك آخر ما يهم الأسد ونظامه، ولذلك رأينا مؤخراً مجموعات من الفنانين والإعلاميين والسياسيين والاقتصاديين ورجال الدين يزورون دمشق بهدف زجّهم في الماكينة الإعلامية بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا يوفر النظام حتى اليوتيوبرات والطهاة، ولربما كانت حفنة المشاهير الأخيرة كالممثل الصيني جاكي شان والمغنية نجوى كرم والشيف عمر، وكثيرون آخرون نماذج واضحة لذلك الاستقطاب.

لا يطلب نظام الأسد اليوم بالضرورة من هؤلاء المشاهير أن يمدحوا الرئيس بشكل مباشر، فيكفي دخولهم سوريا والحديث عن جمالها وعن الأمان الذي تتمتع به وعن سير الحياة الطبيعية فيها، ليكون ذلك أساساً متيناً للدعاية المطلوبة.

أما أن يستقطب النظام شخصيات من بعض الدول الأوروبية "المعادية" لسوريا والتي شاركت بالمؤامرة عليها، فذلك ما يعده ضربة أكثر من مزدوجة، فهو من ناحية يمثل شهادة غير منطوقة من قبلهم ضد سياسة بلدانهم تجاه سوريا، ومن جهة أخرى فهو يمثل اعترافاً من مواطني تلك الدول بشرعية النظام، وهو أيضاً يضمن ترويج الصورة التي يسعى جاهداً لترويجها على لسان المستقطَبين أنفسهم بأن كل ما حدث كان بالفعل مجرد أزمة تم تجاوزها بالكامل.

وكذلك فإن التعاقد مع مدربين أوروبيين يحمل رسالة أخرى يؤكد النظام من خلالها على امتلاكه رفاهية الاهتمام بالرياضة ودعمها، وبالطبع هي رفاهية النظام لا رفاهية سوريا والسوريين، فخريطة سوريا المعترف بها لدى النظام تقتصر على القصر الجمهوري وسكانه والرقعة الجغرافية التي تحيط به.

أما المدرب الهولندي "مارك فوته"، فهو اسم قليل الأهمية في هولندا، ولذلك عكف منذ سنوات على العمل في أندية عربية متعددة، وربما كان مصدر أهميته الوحيد بالنسبة للدول التي تعاقدت معه هو أنه "خبير أجنبي"، فضلاً عن أنه بلغ الواحدة والستين من العمر، وهو يبحث عن فرصة عمل بصرف النظر عن الوضع السياسي للدولة التي يعمل فيها، كما أنه من سكان مدينة "إنشخديه" الهولندية وهي مركز تجمع أتباع النظام، والذين استطاعوا نقل الرواية المزيفة للحدث السوري وكان لهم أثر كبير في تثبيتها في أذهان الهولنديين ولا سيما حين يتم التأكيد من قبل سوريين على أن ما حدث في سوريا كان إرهاباً قاومه الأسد وقضى عليه، وبالتالي يتحول الأسد إلى بطل، وما المدرب الهولندي سوى واحد من هؤلاء المتأثرين الذين استسهلوا الرواية ولم يبذلوا جهداً في معرفة الحقيقة، أو ربما كان يعرف تماماً حقيقة الحدث ولكنه انحاز إلى مصالحه الشخصية شأنه شأن كثيرين من العرب والسوريين.

ومن هنا لا يبقى للرجل مزايا يتاجر بها النظام سوى كونه هولندياً، ورغم سخرية النظام من هولندا بسبب موقفها السياسي منه، فهو لا يتوانى عن التباهي باستقدام مدرب كرة هولندي وصرف رواتب ضخمة له بسبب انتمائه الجغرافي لا بسبب مؤهلاته.

غير أن للتعاقد مع مدرب هولندي جوانب أخرى يمكن أن تنعكس سلباً على حجج الأسد وذرائعه التي يبرر بها تخاذله وعجزه عن حل المشكلات الاقتصادية لحاضنته، وعلى رأسها الغلاء الفاحش الذي لا يمكّن السوري الخاضع لسيطرته من حياة الكفاف، والمأساة الاقتصادية غير المسبوقة التي يعيشها الشعب بحجة الحصار وقانون قيصر، بينما لا يتردد في التعاقد مع مدرب أوروبي ربما يوازي راتبه الشهري رواتب مئات السوريين أو يزيد.

لقد كشف رئيس الاتحاد الرياضي العام فراس معلا في السنة الماضية عن الراتب الشهري للمدرب التونسي نبيل معلول والبالغ 45 ألف دولار شهرياً، فإن تقاضى الخبير الهولندي ذات الراتب بلا زيادة، فإن ذلك من شأنه أن يثير مجموعة أسئلة، أهمها: لماذا لا يلعب الحصار دوراً سلبياً في القدرة على استقدام خبراء أجانب ومنحهم رواتب مرتفعة؟ لماذا لا يطبق الأسد قانون قيصر على الخبراء الأجانب أيضاً فيقلص من رواتبهم كما يفعل مع السوريين، ولماذا ينسى الأزمة الاقتصادية حينما يتعلق الأمر بمصلحته الشخصية؟

لم يتوقف الأسد مرة عند مستوى فريق كرة القدم المتدني ونتائجه المخزية رغم كل الدعم الذي يتلقاه، فكل ما يريده من خلال اهتمامه الظاهري بالرياضة وغيرها من المرافق العامة هو أن يستعيد شبه الدولة التي كانت خاضعة له بحكم القوة

لم يتوقف الأسد مرة عند مستوى فريق كرة القدم المتدني ونتائجه المخزية رغم كل الدعم الذي يتلقاه، فكل ما يريده من خلال اهتمامه الظاهري بالرياضة وغيرها من المرافق العامة هو أن يستعيد شبه الدولة التي كانت خاضعة له بحكم القوة، وإقناع العالم بأنه لا يزال شبه الرئيس الذي كان عليه قبل عام 2011، وكل ذلك على حساب كرامة السوريين الخاضعين لسيطرته وقوتهم ومستقبل أولادهم.

ربما تدرك حاضنة الأسد أن هدف رئيسهم يقتصر فقط على محاولة تلميع صورته، وأن كل الإنفاق على الرياضة وغيرها هو فقط من أجل غسل اسمه، وأن الحصار ما هو إلا الذريعة التي يستخدمها لخنق الشعب والشماعة التي يعلق عليها فشله، والمشنقة التي تنصب لكل من يحاول الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية بذريعة الخيانة ومناصرة المؤامرة.

ولربما يكون التعاقد مع مدرب أوروبي فرصة تكتشف فيها حاضنة الأسد حجم الإذلال والسخرية التي يعاملهم من خلالها ولا سيما حين تزامن ذلك التعاقد مع "المنحة" التي أصدرها، ففي الوقت الذي يتقاضى فيه خبير أجنبي عشرات آلاف الدولارات شهرياً كأجر مستحق لا كهبة، يصدر رئيسهم قراراً بمنح كل موظف عشرين دولاراً لمرة واحدة كمكرمة من السيد الرئيس واجبة الشكر والعرفان.

على مدار عهد الأسدين، ظل المنتخب الوطني لكرة القدم وجميع المنتخبات الرياضية الأخرى مثاراً للسخرية والتندر بالنسبة للسوريين، حيث لم تستطع الرياضة السورية بكل أشكالها تحقيق إنجاز يذكر، باستثناء بعض الرياضات التي تقوم على جهود فردية.

ورغم أن الأسد الأب كان يرى في الرياضة حياة، إلا أن الرياضة ظلت ميتة على مدار عقود حكمه، وقد ساهم الأسد ذاته في قتلها حين فتح أبواب الوساطة والمحسوبيات والرشوة على آخرها -كما فعل مع جميع المرافق الأخرى-.

كما شهدت فترة الأسد الأب أغرب وأقسى صورة من صور التعامل مع الرياضيين، حيث ما تزال واقعة حبس الفارس عدنان نصار ماثلة في الذاكرة السورية وهو الفارس الذي سجن واحداً وعشرين عاماً لمجرد أنه كان منافساً  لباسل الأسد.

وفي عهد الأسد الابن، استشرى الفساد بشكل أكبر في جسد المؤسسات الرياضية، كما هي الحال في جميع المؤسسات الأخرى، وبعد الثورة أصبحت الرياضة ورياضيوها من ضمن الأدوات التي توظف لصالح رواية الأسد، ومؤخراً باتت إحدى الوسائل التي يعتمد عليها الأسد في محاولاته تنظيف تاريخه وطمس سجله الإجرامي.

لا يمكن للرياضة ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة أن ينهض ويتطور عندما يغيب مفهوم الوطن ويتم استبداله بمفهوم الرئيس

لا يمكن للرياضة ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة أن ينهض ويتطور عندما يغيب مفهوم الوطن ويتم استبداله بمفهوم الرئيس، وفي ظل الواقع الحالي سيبقى الوصول إلى ما يشبه فريق كرة القدم حلماً صعب المنال ولن يستطيع خبير أجنبي أن ينقذ الفريق وينقله إلى مرتبة أعلى، بل على العكس تماماً فإن ذلك الخبير هو من سيتلوث بمنظومة القتل والفساد ويتحول إلى فاسد من الطراز الرفيع، هذا إذا سلمنا أنه ليس فاسداً بالأصل، لأن قبول أي شخص بالتعامل مع النظام يضعه في موضع الشك أياً كانت جنسيته وأيا كانت قناعاته.