ما يحدث في أميركا.. ما يحدث في بلادنا

2020.05.31 | 00:11 دمشق

resized_3b12f-35a6244651.jpg
+A
حجم الخط
-A

هناك رجلان: أحدهما مصاب بالسرطان، ناقم وحاسد لعافية الآخر. وعندما أصيب ذاك الآخر بعارض صحي، انتشى الأول وابتهج شامتاً. فقيل له: لكنك أنت من يحتضر. فردّ: على الأقل هو ليس بكامل عافيته.

يصح هذا بينما نحن نراقب الإعلام الإيراني والروسي، ومعظم الإعلام العربي، في متابعة أحداث منيابوليس الأميركية، عقب الاعتداء المميت الذي قامت به مجموعة من شرطة المدينة بحق المواطن الأفريقي الأصل جورج فلويد، وما تلاه من أعمال احتجاجية وشغب وصدامات عنيفة في أنحاء المدينة.. فمن يراقب التغطية الإعلامية تلك، يشعر أن ما تقدمه وتقوله ليس سوى "الشماتة"، على مثال ما فعل صاحبنا المصاب بالسرطان. والخطاب الإعلامي الإيراني والعربي والروسي، بالغ الاستنكار لعنصرية شرطيين بيض، وبالغ التعاطف مع الأفارقة الأميركيين، حتى ليظن واحدنا أن البلاد الروسية والإيرانية والعربية وسلطاتها وأنظمتها وشرطتها، هي مثالات النعيم والرفاهية والمساواة والحرية والعدالة والديموقراطية.

بطبيعة الحال، لا يخفى اعتلال الولايات المتحدة القديم والمتجدد في قضايا حقوق الإنسان والمساواة بين مواطنيها والعدالة الاجتماعية، بل حتى في أنظمتها الانتخابية وتساوي الفرص. ويظهر هذا على نحو مكثف في التفاوت الواضح بين المواطنين من أصل أفريقي والبيض. وهو جرح تاريخي في الوعي الأميركي وفي صلب تكوين الأمة الأميركية. بل وعلى هذا الجرح كانت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب.. لكن أيضاً، على كل هذه العلل أمضت الولايات المتحدة النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكل القرن العشرين وصولاً إلى اليوم، سجالاتها وتحولاتها وديناميكيات سياساتها. وهي تشتبك معها وتشهرها. فما مطلب المساواة ولا مبادئ العدالة ولا حقوق الإنسان ولا الحرية الفردية ولا كرامة الكائن البشري.. إلا أسس الدستور الأميركي وغايته. وهو المرتكز الفعال في كل تحولات النظام الأميركي والحياة الأميركية. بل إن رفض كل انتهاك لأي حق من هذه الحقوق إنما هو في أصل الثقافة الأميركية ومحركها الأول. بل إن هذا هو أثر أميركا في العالم منذ إعلان مبادئ الرئيس ويلسون الأربعة عشر في نهاية الحرب العالمية الأولى، وأهمها: حق تقرير المصير.

إن مسألة الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين، باتت منذ مطلع الستينيات نقطة الارتكاز في تقدم أميركا أو تقهقرها، بوصفها معياراً لعافية الأمة وتوازنها، كما بوصفها امتحاناً لأهلية النظام الأميركي كنموذج. وعلى هذا، خاض الأفارقة الأميركيون ومعهم شطر راجح من البيض والنخب، وأيضاً الأقليات الإثنية الأخرى الشديدة التنوع في المجتمع الأميركي، نضالات حقوقية وسياسية ودستورية وثقافية ولا تزال. فحتى مع الانتصار التاريخي الذي تبدى بوصول باراك أوباما إلى الرئاسة كأول أفرو-أميركي يتولى هذا المنصب الأقوى في العالم، لم تُستأصل لا ثقافة التمييز ولا الممارسات العنصرية. وهذه النضالات على كل حال ليست "ضد" النظام الأميركي، إنما هي من أجله ومن أجل تأكيد القيم التي تقوم عليها الولايات المتحدة.

عندما قيل للجنود الأفارقة الأميركيين في الحرب العالمية الثانية لماذا تذهبون للقتال في حرب البيض، كان يجيبون: نحارب دفاعاً عن حريتهم كي نستحق أيضاً حريتنا.

في تلك الحقبة أيضاً، حين كان الجيش الياباني والنازيون يعتمدون عمليات تطهير عنصري وإبادات قومية وعرقية، كانت أميركا تزج أيضاً بالأميركيين من أصول يابانية في المعتقلات تشكيكاً بولائهم. لكن الفارق هنا أن أيديولوجيا الامبراطورية اليابانية كما النازية إنما هي اعتناق وإيمان "علمي" للعنصرية ولنظرية العرق المتفوق، في حين أن فعلة أميركا تُحسب في الوجدان الأميركي نفسه وفي تاريخه، على أنها "عار" ووصمة خزي وانتهاك مشين للقيم الأميركية ومبادئها. 

في المقابل، وحين ينتشي الإعلام العربي مثلاً بما يحدث في أميركا اليوم، يغفل تماماً عن حال مجتمعاتنا وأنظمتنا الغارقة في مذابح التمييز والعنصرية والطائفية والقبلية والجهوية.

فتاريخنا الحديث على الأقل، المطموس والمكتوم رسمياً وإعلامياً، والمفضوح في وعينا وذاكرتنا.. ما هو إلا تكدس لعار فوق عار. فمسائل المساواة والحرية والعدالة بالكاد استطعنا الاقتراب منها إلا بحمامات دم، كان آخرها جريمة ذبح ثورات الربيع العربي، التي لأول مرة في تاريخنا نطرح فيها القضايا الحقيقية بوصفها هدفاً أمثل، وعلى رأسها: كرامة الكائن البشري. حريته.

ومن بؤس حالنا أو حال الإيراني حتى، أننا قد نجد سوريين مثلاً "يحسدون" الأفارقة الأميركيين في قدرتهم على التظاهر والاحتجاج بل والشغب لمقتل واحد من مجتمعهم. ونحن نعرف عقوداً من الحياة السورية في علاقتها بالسلطة تشبه تماماً مشهد ضابط الشرطة بمنيابوليس الذي خنق جورج فلويد بركبته حتى الموت.

لقد دفعنا منذ تسع سنوات وحتى اليوم مئات آلاف الضحايا وخراباً عميماً ثمن انتفاضنا نصرةً لمحمد بوعزيزي وما مثلته حادثته مع الشرطة من شرارة انتشرت ناراً في هشيم العالم العربي.

ليست أميركا مثالية ولن تكون، وستظل العدالة الاجتماعية تخسر أمام قانون الرأسمالية الشرس. ستظل الحريات الفردية مقيدة بتفاوت الفرص. ستظل المساواة صعبة المنال أمام التمايز الطبقي.. ستظل الديموقراطية منقوصة بنزعة الطغيان والاستئثار. لكن هذا "الوضع البشري"، نزاعه الدرامي، هو ما يعترف به الدستور الأميركي ويقوم عليه، كهدف للإنسانية من أجل السعادة والرفاهية، من أجل نعيم أرضي، من أجل الخير في صراعه مع الشر.