ما جدوى الكتابة؟

2021.10.23 | 07:11 دمشق

5051a_12988091_1232096256808280_1060318754_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

وسط هذا الواقع، العربي، ثم العالمي، المتَّسم بغيرِ قليلٍ من الهشاشة، والفوضوية، والمحتكِم إلى المصالح المادية، على حساب القيم الإنسانية المشترَكة، وسط هذه الاستهانة بأرواح الشعوب، والناس ومصائرهم، يثور السؤال القديم الجديد عن جدوى الفكر، ومحاولات تغيير الواقع، بالكتابة، مثلًا؟

ربما تنبع أزمة الكتابة من الإخفاق في تحقيق التطابق بين العقل ونتاجه، من جهة، وبين العالم والواقع، من جهة أخرى، ويتعزَّز هذا السؤال، كلَّما ارتكست البشرية، وانتكست، وبعد خيبة الآمال بأنْ تكون التجارِبُ التاريخية المؤلمة قد عزَّزت المساعي نحو مستقبلٍ أقلّ وحشيّة وبربرية، وأكثر احتكامًا للعدالة؛ حين دفَع صعودُ النازية والفاشية، والمآسي التي تركتها الحربُ العالمية الثانية، فلاسفةً وأدباء إلى الجنوح نحو اللاعقلانية والعبث.  

ابتداءً، لا نقصد هنا الكتابة الأدبية، التي تنتظر المتعة فقط، فتلك غير مرهونة بآثارٍ واقعية اجتماعية، إنما بمقدار نجاح الكتابة في تحقيق المتعة للكاتب، والقارئ.

ربما ينجم ظلم الكتابة، بوصفها أحد أهمِّ نشاطات الفكر، وبوصفها سجِّلًا تاريخيًّا ضروريًّا له، عن أوهام سطوتها المبالغ فيها، دون مراعاة لعوامل أخرى تتحكَّم في الإنسان، فردًا، أو جماعة، أو عن التوهُّم بنتائج فورية لها، أو سريعة.

والصحيح أنَّ الكتابة في حالة صراع دائم مع مؤثِّرات نقيضة، كالمال، وأدوات الحرب، والسلطة، بما للأخيرة من تأثيرٍ أكثر حسمًا، وأوسع نطاقًا.

وفي الأدب العربي طالما تكرَّرت ثُنائية السيف والقلم؛ السيف أداةً للسلطة المادية، والقلم؛ أداةً للفكر، كما في بيت أبي تمَّام المشهور:" السيفُ أصدقُ إنباءً مِن الكتبِ/ في حَدِّه الحَدُّ بين الجِدِّ واللعبِ". وكما في بيت المتنبِّي (الذي تناصَّ مع بيت أبي تمَّام السابق):" حَتّى رَجَعتُ وَأَقلامي قَوائِلُ لي/ المَجدُ لِلسَيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ."

ورأى ابنُ خلدون، في مقدِّمته، أنَّ الحاجة إلى القلم تكون بعد نجاح الدولة في تكريس سلطتها، وهو الذي يكون قد تحقَّق بالسيف، "وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبُها، بعضَ الشيء، عن السيف؛ لأنه قد تمهَّد أمرُه، ولم يبقَ همُّه، إلا في تحصيل ثمرات المُلك؛ من الجباية والضبط، ومباهاة الدول، وتنفيذ الأحكام، والقلم هو المُعِين له في ذلك". والحاجة هنا بمعنى التفعيل، فالغالب أنَّ القوة المادية هي التي تُفَعَّل، وقتَ الحسم، وتوطيد السلطة، على أنقاض قوة الخصوم، لكن ذلك لا يعني الاستغناء عن الفكر لإنشاء شرعيّة الحكم والدولة، ولا الاستغناء عن القوة المادية لحفظ هيبة الدولة، وتحقيق الردع. 

ثم إن الأمر لا يبدو بهذه الثنائية الضدية؛ إمّا الفكر، وإمّا السلطة؛ فكثيرًا ما تحظى خطاباتٌ ثقافية معيَّنة بالسيادة؛ نتيجة قوّة المؤسسات التي تفرضها، قريبًا ممَّا بحثه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عن علاقات السلطة والخطاب المهيمن؛ لتكون الثقافة في خدمة السلطة، ومؤسساتها، لكن قوة السلطة ليست ثابتة، ونحن نشهد خُروجاتٍ ثقافية وسياسية، لا يمكن إقصاؤُها، وأصبح من الأصعب تهميشُها، بعد ملامسة الشعوب للنتائج الظالمة التي تسبَّبت بها الأنظمةُ الرأسمالية، والكولونيالية، وبعد أنْ فسح الإعلامُ الجديد، الرقمي والتفاعُلي، نوافذ أوسع للرأي المخالف.  

وفي المقابلة بين الواقع العِياني والفكر، يُفهَم من فلسفة هيجل أنَّ "الممكنات أغزرُ وأخصب من الواقع"، فالعقل والفكر، حين يكون تغييريًّا، لا تكون مهمته شرعنة الأوضاع القائمة، والحفاظ على كلِّ القيم السائدة.

هذا، ولا تظهر محنة الفكر، إلا إذا كان تغييريًّا، فقد ذكر سقراط أنه قد "يقال عن رجل إنه حكيم، ولكن الأثينيين، فيما أحسَب، لا يكلِّفون أنفسهم عناءً بشأنه، إلا إذا أخذ يبثُّ في الناس حكمته، عندئذ يأخذهم الغضب لسبب ما، وقد يكون لغَيْرةٍ فيهم." [محاورات أفلاطون].

وهذا يأخذنا إلى أهمية التزام الكاتب، أو المفكِّر، برأيه، أو أن يكون نموذجًا في تمثُّل المواقف التي يتبنَّاها، دون انتقائية أنانية، أو مِن أيِّ نوع، خلافًا لما قاله الفيلسوف الألماني كانط عن نطاق تجسُّد الحرية، وكيف أنه رأى أن الحرية، بمعناها الصحيح، لا تحقَّق، إلا في المجال العقلي الصِّرْف، أيْ في مجال العالم المعقول، أما عالم التجربة الفعلية فتحكمه "الضرورة". فالفلسفة، على هذا، كأنها غير مخوَّلة بالتدخُّل، أو التأثير في مجرى الأحداث. والفكر، أو التحرُّري منه، في هذه الحالة محاولة هروبية، كما ذهب الدكتور فؤاد زكريا، واحتماء بعالم العقل؛ خوفًا من عالم الواقع، أو نتيجة للعجز عن التأثير فيه. [في مقدمة ترجمته لكتاب "العقل والثورة، تأليف هربرت ماركيوز].

علمًا بأن حركة الجدل، عند هيجل، هي حركة تتسم أساسًا بأنها رفض وإنكار لما هو قائم، فعلًا، وسعيٌ إلى مركَّب أشمل منه، وأقلُّ تناقضًا، ولا تلبث هذه الحركة أن تقف منه موقفًا سلبيًّا، وتنكره إلى ما هو أعلى منه، وهكذا. فالسلب كامن في قلب كلِّ شيء، وكلُّ شيء يحمل نقيضَه، ويحمل عوامل رفضه والثورة عليه؛ من أجل تجاوزه.

دور الأفكار في التغيير:

أمامنا شواهد تاريخية كبرى على دور الفكر في تغيير مجرى الحياة والأحداث، وإن كان الجدل يظلُّ قائمًا بين أن يكون للفكر الدور الحاسم، وبين أن يكون عاملًا يتضافر مع عوامل أخرى.

فقد أفضى إصرار المفكِّرين والعلماء في أوروبا، بعد عشرات السنين، إلى تحجيم سلطة الكنيسة التي كانت مهيمنة على الحياة، وتستبدّ بكلِّ مناشطها، وحتى العلمية منها، وذلك لم يتحقق إلا بعد تضحيات كثيرة، من مفكرين وعلماء، وصلت حتى القتل، والإقصاء.  

وكذلك فيما يتعلق بالثورة الفرنسية التي غيَّرت وجه فرنسا، وكثيرا من دول العالم، حيث ليس بالإمكان إغفال دور مفكّري التنوير في التأسيس لها، إلى جانب عوامل فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية متداخلة، جعلت المجتمع الفرنسي على استعداد تام لتقبّل الأفكار الثورية. كما يذهب رئيف خوري في كتابه: "الفكر العربي الحديث... أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي".

وأخيرًا، فإنَّ التشكيك بجدوى الفكر والكتابة لا يثور، إلا في أوقات اليأس الإنساني، وفي الدول التي لا تحفل بالقوة الحقيقية، أما الدول الحقيقية فإنها تتلقَّف أيَّ فكرة منتجة، لتنقلها إلى مواقع التنفيذ. 

فلا مفرّ من ملاحقة تيَّار الوقائع، والقبض على الأحداث الجارية المهمة؛ لتكوين تصوُّر لها، (قبل انفلاتها، أو فقدان جوانب منها)، حتى لا نخسر فائدة تسلسها، وتأثيرها في الأحداث التالية لها، وفي إدراك أثرها المؤكَّد (سواء تمّ رصدها، والوعي بها، أم لا) في توجيه أفكار الناس.