ما ثمن التحول من العباءة الجهادية إلى البدلة الليبرالية؟

2021.02.07 | 00:01 دمشق

qqd.gif
+A
حجم الخط
-A

ربما كان مفاجئاً لكثيرين ظهور أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام الإسلامية (جبهة النصرة سابقاً) مع الصحفي الأميركي مارتن سميث، وهو يرتدي بدلة رسمية من غير ربطة عنق (على عادة الإيرانيين) ليطل علينا لأول مرة بهذا الزي الذين يرتديه السياسيون الغربيون ثم أصبح جزءاً من الأعراف الدبلوماسية الرسمية في العصرين الحديث والمعاصر.

لقد كان ثمن هذا التحول الكبير من ارتداء نهج القاعدة إلى ارتداء نهج "العم سام" شنيعاً جداً، وقبيحاً، دُفع من دماء الشعب وأحلامه، حيث كانت المعادلة التي يريدها الشعب إبان الثورة بسيطة جداً، إسقاط النظام والقصاص وبداية جديدة، وإن كانت متعثرة وطويلة وشاقة، إلا أنها كانت ممكنة.

لا يتحمل الجولاني وحده، انكسارات الثورة وخسارتها، ولكنه أحد الذين ساهموا عن سبق إصرار وترصد بوصولها إلى الوضع الحالي، والانكفاء مع جماعته في إدلب وما حولها باسطاً سيطرته عليه، وليس بعيداً أن يدعو بعد سنوات قليلة فقط لانتخابات ديمقراطية صورية، متبنياً نموذجاً جمهورياً إسلاموياً، وربما يشارك في مفاوضات جنيف تحت مظلة الأمم المتحدة، وبدعم دولي باعتباره أحد الأطراف "الشرعية" التي تمثل السوريين؛ بات اليوم كل شيء ممكناً.

1_0.jpg

 

"النصرة" مقدمة قصيرة جداً

في عام ٢٠١٢، ظهرت جبهة النصرة في الساحة السورية مستقطبة أكبر عدد ممكن من الشباب الطامح لإسقاط النظام والذي يحمل في مخيلته المُشكلة جديداً حلم إعادة الخلافة الإسلامية عبر تطويع آيات وأحاديث ووقائع تاريخية تساند التنظيم الناشئ على التمدد والتوسع والانتشار طولاً وعرضاً.

منذ اللحظة الأولى كان دخول القاعدة أو أي طرف يحمل مشروعها أو يشابهه خطرا كبيرا على الثورة السورية

لم يعلن التنظيم في بداياته ارتباطاً بأي تنظيم عالمي؛ لاسيما "تنظيم القاعدة" وإن بدأ باستخدام أدواته ومنشوراته وكتبه في زرع العقيدة الجديدة للشباب المنتسب؛ الذين تباينوا بين معتقلين إسلاميين أفرج عنهم النظام نالوا دورات شرعية في سجن صيدنايا وبعض المعتقلات، وشباب ملتزم متحمس، وآخرين طارئين على فكرة الالتزام بحد ذاتها (بعضهم لم يكن يصلي)، مهمشين مجتعياً، لم يكن لديهم أي شيء ليخسروه، إنما أعجبتهم قوة التنظيم وشدته و"إثخانه بالعدو" عبر "التفجير والتدمير والملغمات والانغماسيين".

منذ اللحظة الأولى كان دخول القاعدة أو أي طرف يحمل مشروعها أو يشابهه خطرا كبيرا على الثورة السورية، باعتبار هذه التنظيمات تواجه معضلة دولية غير مقبولة مقارنة بنظام الأسد الذي استغلهم وجندهم واخترقهم واستخدمهم في العديد من غزواته بالإقليم (العراق ولبنان وصولاً لأفغانستان).

كما أنها تنظيمات غير قابلة للعيش في المجتمع السوري المسلم المتدين شعبياً والصوفية مترسخة به لقرون طويلة، أو الخليط المجتمعي السوري ككل والذي يضم انتماءات واسعة دينية ومذهبية وطائفية وإثنية من غير المعقول أن تخرج من تشبيح نظام الأسد ومعتقلاته إلى تكفير "جبهة النصرة" ودوراتها الشرعية.

استمر التنظيم في سنته الأولى يبني سمعة محلية ممتازة؛ باعتباره لا يتدخل بحياة الناس ولا يعتدي أي من عناصره على ممتلكاتهم وأرزاقهم، وفي إطار ذلك تمكن من كسب قلوب الكثيرين من الشباب السوري وبعض العرب والأجانب الذين هاجروا نحو سوريا للجهاد "ودفع الصائل"، حتى إنه نال مديحاً من بعض زعماء المعارضة السياسية تنوعت تياراتهم بين الماركسية والعلمانية والليبرالية و"نيو إسلامية".

تغيرت المعادلة كلياً مع ظهور تنظيم الدولة "داعش" عام 2013، ومحاولته قطف ثمار ما بنته جبهة النصرة على مدى أكثر من عامين؛ حيث أعلنت النصرة ارتباطها بالقاعدة، وبدأ "داعش" بالخطوة الأولى لتفتيت الثورة وثورات الربيع العربي أيضاً، تزامناً مع حرب هيستيرية يمارسها النظام ضد الشعب والثوار.

وبدأت معركة الثورة تأخذ طريقاً جديداً مع تنظيم خرج من رحم جبهة النصرة، وله مقراتٌ وجنود في كل بقعة محررة من الأراضي السورية، يضع اللواصق والمتفجرات ويذبح ويحرق ويبطش ويقتل في السوريين طولاً عرضاً، يميناً وشمالاً، منفذاً لخطة تنقذ نظام الأسد، محولاً الثورة الشعبية إلى إرهابية سوداء متوحشة، لا حقوق شعبية مشروعة تطالب بالتغيير.

لم تكن قائمة "الإرهاب" العالمية ذات أهمية في قاموس السوريين طالما أن نظام الأسد خارجها، وهي كلمة ممجوجة وحمالة أوجه ويستحقها مصنفوها من الدول أكثر من سواهم من التنظيمات المخترقة أو المحسوبة على مخابرات العالم، ففي مقابل "داعش" و"النصرة" سيطرت الميليشيات الإيرانية على أربعة عواصم عربية بزعامة الحرس الثوري الإيراني، ولم تصنف إرهابية.

كانت مشكلة السوريين التي تأخر الوعي بها لسنوات، أن وجود أي تنظيم مسلح من نوع القاعدة سيبقى ذريعة حتى إنهاء الثورة السورية، أو حصرها في بقعة جغرافية (إدلب) لا تحمل من الاستراتيجية الاقتصادية أو الجيوسياسية أي معنى يذكر مقارنة بالعاصمة دمشق أو حلب أو الساحل أو الجزيرة السورية، حيث يوجد نحو 5 ملايين إنسان من دون أي مقومات وموارد مهمة سوى بعض الزيتون والكرز وما تنبته الأرض، ستبقى المساعدات الإنسانية وسيلتهم الأبرز للبقاء.

حُولت سوريا بمعية الجولاني ونظام الأسد وتناحر الفصائل وفشل المعارضة بتحويل سوريا لساحة حرب دولية، تضم "إخوة المنهج" وطائرات روسيا والتحالف الدولي والسوريون (ومعهم المسلمون) بالمنتصف تقتلهم سكاكين داعش بتهمة الكفر والردة ويطولهم رصاص معارك النصرة لجمع سلاح الفصائل العميلة وتدك رؤوسهم مقاتلات التحالف وروسيا، مع كيماوي وبراميل نظام الأسد الذي يستغل كل فرصة لسحق الثورة والبقاء في سدة الحكم.

2_0.jpg

نظرية التحول عند الجولاني

أخفى الجولاني وجهه حتى عام 2016 وبقربه أعلام سوداء ثم أطل علينا وقد أعطانا ظهره على قناة الجزيرة، نلمحُ يديه المباركتين وهو يشير إلى المذيع (تيسير علوني) بكفر الديمقراطية، وكانت أذواقه متنوعة بين ثياب الأفغان وعباءة الخليج المليئة بالدولارات وفلكلور الشام القديمة (استخدمه الثوار في قتال الفرنسيين في مسلسل باب الحارة) ثم ظهر وهو يرتدي ثياب عسكرية الخاكي لمواجهة فصائل الموك التي تنال دعماً من أميركا، ثم سوداء يرتديها عناصر القوات الخاصة لمواجهة إخوة المنهج أو مثل حركة أحرار الشام التي أفقدها معظم مقومات البقاء.

3_0.jpg

 

وأصبحت الكاميرا ترافقه في بساتين إدلب، وتحت زيتونها وهو يفترش الأرض ويلتحف السماء، وتلمحه العدسة وهو يضع يده على خريطة المعركة القادمة دون خوف من تسريبها للطرف الآخر في زمن "غوغل إيرث" الذي لا يكتم به سر غزوة.

كان لدى الجولاني مشكلة مع الأعلام والرايات سوى التي يرفعها التنظيم، إذ كان علم الثورة "الكافر" الذي تمت ملاحقته من مكان إلى آخر، ومن كتيبة إلى أخرى، وأحرق وأنزل وداسه العناصر لعشرات المرات، متشابهاً مع لؤي حسين في ابتعاده عن علمٍ لا يمثل السوريين.

وبعد عام 2018، آمن الجولاني بعلم الثورة، بعد أن قضى على العملاء الذين يرفعونه، واجتاز "كورسات أونلاين" في الواقعية السياسية والمثالية والبنائية، متطرقاً لنظريات ما بعد الحداثة، وتطور دون أن يؤمن بنظرية "تشارلز دارون".

أخذ الجولاني، العلم عن أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني واستفاد من ترجمات د.إياد القنيبي على "يوتيوب"، أجازه أسامة بن لادن سماعياً، وشهد له حكيم الأمة أيمن الظواهري بالولاية ثم غضب عليه وطلقه ثلاثاً.

كان رفيق سلاح سابق مع الخليفة الشهيد أبو بكر البغدادي، وتمرن على الخطابة سابقاً مع أبو محمد العدناني، صديقه المقرب الذي يرتاح على كتفيه أبو جابر الشيخ، وعدوه اللدود زهران علوش، فيما نديمه اليومي على "الواتساب" كمال اللبواني.

4.jpg

هو الجوكر في لعبة ورق سوريا، يفهم اللاعبين تماماً، ويأكل في جميع الوضعيات، يتجنب الخوازيق الدولية، ويسرح في خياله وهو يعد طائرات التحالف الدولي وروسيا ونظام الأسد وهي تدك المدنيين في إدلب بحجة تنظيمه "الإرهابي".

وضعت أميركا في رأسه ١٠ ملايين دولار، يكذبها جوع الوشاة في إدلب، واغتيال واشنطن للبغدادي على بعد قريتين أو ثلاث منه، ويكذب الإعلان سياسة توزيع الأدوار التي تنتهجها الولايات المتحدة، مع يد حديدية باطشة استمدها الجولاني من خبرة بشار الأسد بالبقاء على قيد الحياة في ظل كل من قتلوا من طغاة العرب.

كفّر الجولاني حتى وقت قريب العلمانية ومدارسها، والماركسية وحركاتها، واليسار واليمين والوسط، وكذلك الإخوان والتحرير والصوفية والسلفية المرجئة والسرورية وكل المذاهب الباطنية والظاهرية

كشف حسابه على "جود ريدز" (Goodreads) أبرز الكتب التي قرأها، "ملة إبراهيم" للمقدسي (5 نجوم)، وإدارة التوحش لأبي بكر ناجي (5 نجوم)، "فرسان تحت راية النبي" لأيمن الظواهري (5 نجوم مع البيعة، من دون أي نجمة بعد فك الارتباط)، "فصول في الإمامة والبيعة" لـ أبو المنذر الشنقيطي (5 نجوم)، "فقه الدماء" لـ أبو عبد الله المهاجر (5 نجوم مع قلب)، "معالم الطائفة المنصورة في بلاد الرافدين" (5 نجوم في 2012 - ديس لايك 2014)، وغيرها.

كفّر الجولاني حتى وقت قريب العلمانية ومدارسها، والماركسية وحركاتها، واليسار واليمين والوسط، وكذلك الإخوان والتحرير والصوفية والسلفية المرجئة والسرورية وكل المذاهب الباطنية والظاهرية.

تطور الآن مع البدلة الرسمية ونسي موضوع الكفر والإيمان متهرباً من بعض أسئلة الصحفي الأميركي عن الديمقراطية والغرب قائلاً: تشرب "إسبريسو" ولا "كابتشينو" يوجد "أمريكانو" لدينا أيضاً؟

وقبل أن تنتهي زيارة مارتن سميث لإدلب، التقطا صورة تذكارية، انتشرت على معظم وسائل الإعلام، كان بإمكان الجولاني أن يلتقطها في 2011 مجنباً الشعب السوري كان تلك المزاودات والمحطات والتحولات، واصلاً إلى المستقبل دون أن يمشي على رفات الثورة.

ويتوقع مراقبون أن يكون الطور القادم للجولاني بظهور فريد من نوعه مع الإعلامية الأميركية "أوبرا وينفري" مع لقطة سيلفي وبدلة أكثر عصرية.