ما بين احتفاليتين.. ماذا على السوريين أن يفعلوا؟

2023.03.17 | 05:49 دمشق

ما بين احتفاليتين.. ماذا على السوريين أن يفعلوا؟
+A
حجم الخط
-A

يحتفل كثيرٌ من السوريين في شهر آذار من كل عام بذكرى انطلاقة الثورة ضد نظام الأسد، وعلى اختلاف مشارب المحتفلين الذين يدور بينهم جدلٌ متكرر حول التاريخ الدقيق، أهو 15 أم 18 آذار، فإنّهم جميعًا يتمسكون بسرديّتهم التي تبرزُ الجوانب الأخلاقية للثورة، ومن خلالها يؤكدون على مشروعيتها واستحقاقها. يقف الأمرُ غالبًا عند هذا الحد، قد يتجاوزه قليلًا لتأكيد لا أخلاقية سرديّة النظام ومؤيديه، ولتأكيد جبن من لم يحسموا أمرهم بالانحياز لأحد الفريقين، مع تثقيلٍ لناحية اتهامهم بالتواطؤ الصامت أو انعدام الشرف والمسؤولية الوطنية حتى. لا يمنع ذلك من لحظ النقاشات الدائرة بين الأكثر انخراطًا منهم بالشأن العام حول أسباب الوصول إلى الوضع الراهن. وهذه النقاشات، وإن كانت تتمّ في غالبيتها العظمى افتراضيًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها حقيقيةٌ بدرجة كافية لصنع فارق معيّن في الصورة، ضمن ظروف التبعثر والتذرر والتشرذم الجمعي الراهن. وقد بدأت هذه النقاشات تخوض شيئًا فشيئًا في عمق حالة الاستعصاء محاولة تفكيكها لإعادة قراءتها بشكل مغاير، علّ ذلك يوصل إلى ضوءٍ ما في نهاية النفق المظلم.

يدرك أي عابر سبيل يمر جانب المشهد السوريّ مدى الانقسام السوري، سياسيًا، اجتماعيًا، عقديًا، فكريًا، ثقافيًا، قوميًا، طبقيًا وحتى مناطقيًا

لكنّ هذه النقاشات، وعلى الرغم من أهميتها الكبيرة، إلا أنها تبقى نظرية من جهة، وحبيسة الأطر الافتراضية من جهة ثانية. نادرًا ما تجد هذه الطروحات طريقها المباشر للتنفيذ على أرض الواقع، لكنها بالمقابل تأخذ دورها في تحفيز التفكير داخل المنظومات الأخرى المغلقة (المعادية والحيادية أو الرمادية بالأحرى)، وتجد طريقها بشكل أو بآخر للحاضنة الشعبية التي يُفترض أنها انطلقت منها وبنفس الوقت تعبّر عنها وتتحدث باسمها. هذا التأثير المديد لا ينتج تغييرات جذرية وسريعة، لكنه يبقى على كل حال ملحوظ الأثر والنتيجة. ومع امتداد الزمن، واتّساع رقعة الشتات السوري (استلهامًا من تجربة الأشقاء الفلسطينيين)، يبقى السؤال المطروح بلا إجابة، ماذا بعد، وما هو السبيل إلى هذا الجديد المنشود؟

يدرك أي عابر سبيل يمر جانب المشهد السوريّ مدى الانقسام السوري، سياسيًا، اجتماعيًا، عقديًا، فكريًا، ثقافيًا، قوميًا، طبقيًا وحتى مناطقيًا. يضاف إلى ذلك كلّه الانقسامات التي فرضتها الحرب المدمّرة، بين نزوحٍ داخلي ولجوءٍ خارجي وبقاءٍ تحت رحمة أجهزة النظام الأمنية والعسكرية. ولا ننسى هذه الثنائية الواقعية للداخل والخارج، والتي ما كان لأي من طرفيها أن يدرك كم يقدّم الصراع حولها وحول أولوياتها للآخر (العدو) من هدايا مجانية. يجعل هذا الانقسام الحاد والمزمن بنفس الوقت من مسألة التوافق على مشتركاتٍ بالحدود الدنيا، أو بناء هذه المشتركات من خلال التواصل والتنسيق، أمرًا في غاية التعقيد والصعوبة، خاصّة وأنّ انعدام اللقاءات الفيزيائية اليومية المباشرة، يفقد هذه الجهود حميميتها، ويحدّ من الأثر العاطفي الذي يعززه الاحتكاك اليومي الدائم والمكثّف، وكما يقول المثل الدارج (العين مغرفة الكلام)، وبدون هذا المنهل المباشر تتجلّد الحواسُ وتتقوقع الأفكار، وتخبو الحماسة وتفتر الهمم.

ما يغيب عن أذهان بعض المشتغلين في الشأن العام السوري، أو بالأصح ما يغيب عن طرحهم الدقيق، هو حسب رأي كاتب هذه السطور، التفكير بآليات جديدة لتقسيم اللوحة السورية، والعمل على الأجزاء المختلفة منها كلٌّ على حدة، مع مراعاة الغاية النهائية التي ينبغي الوصول إليها. ولتوضيح هذه الفكرة، سنأخذُ مثالًا بسيطًا ومهمًا في الوقت ذاته، ومن خلاله سنحاول تثبيت وجهة النظر المزعومة هذه. يستهدف هذا المثال شريحة واحدة من السوريين المهجّرين، وهي الأكثر استقرارًا من بين بقية الشرائح نسبيًا بالطبع، أي المقيمين في أوروبا الغربية وأميركا وكندا وما شابهها من دول ديمقراطية. سيكون علينا أيضًا تقسيم هذه الشريحة إلى ثلاثة أقسامٍ على الأقل، أولها الرجال والنساء الذين وصلوا إلى هذه البلاد وهم فوق الأربعين من العمر، والشباب الذين تراوحت أعمارهم بين الخامسة عشر والأربعين، والأطفال الذين قدموا وهم ما دون سن الخامسة عشر أو الذين ولدوا هنا.

تبقى فرص عودة نسبة كبيرة من أعضاء الفئة الأولى إلى سوريا بعد استقرار الأوضاع أمنيًا وحصول الانتقال السياسي (إن حصل أصلًا)، معقولة وراجحة، فهؤلاء يصعب عليهم الاندماج بشكل فعال وكبير في المجتمعات الجديدة، لأسباب يطول شرحها ولا مقام لها هنا. أما الفئة الثانية، وهي الأكبر عددًا، ففرص عودة نسب من أفرادها قليلة جدًا، وإن حصلت، فستكون على صعيدٍ متقطع بهدف العمل والاستثمار إذا ما كانت الظروف مؤاتية، أي لن تكون عودتهم للاستقرار النهائي. والفئة الثالثة والأخيرة، هي التي تضم أفرادًا لا يمكن أو لا يُتصوّر عودة أي من منهم لانعدام الروابط مع سوريا، اللّهم إلا من طيف ذكريات سمعوها من الأهل، لا تلبث أن تنقشع كغيوم الصيف في بلادنا. والسؤال المتكرر هنا، ماذا فعل المشتغلون بالشأن العام لهذه الشرائح الثلاثة، ناهيكم عن بقية الفئات التي تكلمنا عنها أعلاه؟

هل سيكون علينا أن نقرّ بهذا التغيير الديموغرافي الكبير وأن نستسلم له، هل يمكننا أن نفعل ذلك أساسًا؟

لو انطلقنا من فرضية قابلة للإثبات كما للدحض، تقول بأنّ الأسد ونظامه انتصرا على الشعب السوري، وأنّ المجتمعين الإقليمي والدولي أعادا تدويرهما وإدماجهما في هيكليتهما، وبالتالي تلاشت فرص العودة للغالبية الساحقة من هؤلاء المشردين واللاجئين إلى سوريا، فماذا نحن فاعلون؟ هل سيكون علينا أن نقرّ بهذا التغيير الديموغرافي الكبير وأن نستسلم له، هل يمكننا أن نفعل ذلك أساسًا؟ أم يتوجّب علينا العمل على بناء سردية خاصّة تجمع شتات هذه الفئات والشرائح المختلفة، لتصنع منها في النهاية قوّة حقيقية قادرة على التغيير ولو على المدى الطويل؟ وإن أردنا ذلك، فما هو السبيل إليه، ومن أين نبدأ، وكيف؟

الإجابة على هذه الأسئلة المستحقّة ليست بالمسألة الهيّنة، لكنّ كلمات مفتاحيّة قد تعطينا اتجاهات ممكنة لمؤشر البوصلة. من هذه الكلمات مجموعات الضغط مثلًا، والجاليات أيضًا، والمصالح المشتركة بين المجتمعات والدول المضيفة وسوريا المستقبل شعبًا ودولةً ونظامَ حكم. هذه الكلمات بحاجة لبحوث موسّعة، لكن لا يمنع ذلك، وريثما يتم، من التطرّق إليها بعمق أكثر في النقاشات الدائرة ما بين احتفاليتين، علّنا نصل إلى فعل مثمرٍ يمكننا البدء به ومتابعته، نحن المشتغلين بالشأن العام السوري، محبّة منّا تارة ورغمًا عنّا تاراتٍ أُخر.