ما بعد مقتل سليماني: تمكين الأنظمة وضرب الثورات

2020.01.09 | 17:20 دمشق

20200108_2_40216535_51005809.jpg
+A
حجم الخط
-A

يرسم قتل أميركا لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وما تلاه من ردة فعل إيرانية هزيلة، ملامح المرحلة القادمة القائمة على ضبط إيقاع التصعيد مرحليا، تمهيدا لتركيب صفقات تتيح لكل طرف الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب.

انطلاقا من هذا البعد يمكن النظر إلى اغتيال سليماني وكأنه كان تعبيرا عن حاجة أميركية إيرانية مشتركة، سمحت في لحظة معينة بالتضحية به في سبيل تمهيد الطريق أمام تفاوض جديد.

يروّج كل من الطرفين للتعامل مع مقتل سليماني بوصفه نهاية لحقبة كاملة من العلاقات الأميركية الإيرانية المتأزمة، وكأن الرجل بشخصه كان يمثل كل المشروع الإيراني الذي تنظر إليه أميركا بوصفه إجراما وإرهابا، وكأن كل هذه العناوين قد ذابت وتبخرت مع مقتله.

 وكان لافتا مؤخرا أن أميركا ترمب نجحت في نقل شبكة التوصيفات التي تطلقها عليه إلى المجال الأوروبي الذي عمل على تكرار الخطاب الأميركي في هذا الصدد.

التغير في الموقف الأوروبي جاء بعد فترة من التحفظ الواضح على السير في ركاب إدارة ترمب، والحرص على إظهار التباين معها بشأن إيران، ما يدل على أن الجو القائم حاليا يتناسب مع نزوعات أوروبا إلى خفض التصعيد مع إيران وإبرام اتفاق جديد معها.

أطلق مقتل هذا الرجل دينامية سياسية جديدة، يمكن من خلالها أن نصف عملية الاغتيال أنها كانت نوعا من التصعيد التوافقي المدروس والمنظم، لا بل المطلوب.

من ناحية أميركا ظهرت إدارة ترمب بوصفها حازمة وصارمة وقادرة على الذهاب إلى أبعد الحدود في ما يخص حماية الأميركيين والدفاع عنهم، وبدت ناجحة في تسييل كل هذا الرصيد الناتج عن العملية لصالح مشروع إعادة انتخاب ترمب لولاية ثانية، وأكثر من ذلك نجحت في تسفيه خطاب الديمقراطيين والمعارضين بشكل كبير وتحصيل دعم جمهوري شامل.

من ناحية إيران يبدو الوضع أكثر ملاءمة وربحية. لم يعد أحد يتحدث عن مئات القتلى الذين سقطوا في الاحتجاجات ضد النظام والتي ما زالت قائمة، بل سيطرت على التناول العام للشأن الإيراني المشهدية المرتبطة بمقتل سليماني، بوصفها الناظم الوحيد لكل ما يرتبط بإيران حاليا.

هكذا نجح النظام الإيراني في محو جثث قتلى الاحتجاجات بجثث الذين سقطوا في تشييع سليماني، وبالتركيب الإعلامي الذي يتحدث عن سقوط أكثر من ثمانين جنديا أميركيا في الضربة الصاروخية الباهتة على قاعدة عين الأسد في العراق.

تفتح هذه التفاهمات والصفقات المنتظرة الباب واسعا أمام مشهد تمكين الأنظمة وقمع الثورات والاحتجاجات، وزيادة التشدد في إيران وفي كل البلاد التي تمد فيها أذرعها.

وعلى الرغم من أن كل العالم يعرف أن الضربة الصاروخية المنسقة مع الأميركيين، والتي أبلغوا بحدوثها قبل وقوعها لم تسفر عن إصابة أي جندي أميركي، فإن الحرص الإيراني على إبراز الأمر بوصفه مقتلة للجنود الأميركيين في هذه اللحظة لا ينطوي على مجرد تفاهة، بقدر ما يضيء على ملامح المرحلة القادمة في إيران وفي المنطقة.

يعني ذلك أن إيران تسعى إلى مقايضة دم سليماني بالسماح لها بالإجهاز على الإيرانيين، وإطلاق آلة القمع المرتبطة بها في المنطقة، فالتصعيد بينها وبين الأميركيين قد انتهى عنوانه العسكري بحقائقه وأوهامه، وبقي الشق الاقتصادي منه والذي يمكن التفاهم حوله لاحقا.

تفتح هذه التفاهمات والصفقات المنتظرة الباب واسعا أمام مشهد تمكين الأنظمة وقمع الثورات والاحتجاجات، وزيادة التشدد في إيران وفي كل البلاد التي تمد فيها أذرعها.

النتيجة الأولى لمقتل سليماني انعكست في الداخل الإيراني عبر تمكين التيار المحافظ وخطابه، وإعادة إنتاج منظومة "الموت لأمريكا" كعقيدة عامة تستعمل كسلاح دمار شامل ضد كل صوت معارض، ما يرجح أن يترجم بفوز ساحق للتيار المتشدد في الانتخابات البرلمانية الإيرانية المقررة في الشهر القادم.

لا يمكن للشأن العام وللمطالب الشعبية الظهور على شاشة "الموت لأمريكا" ولا منافسة آثار دم سليماني، فقد أدى هذا الدم وما تلاه من برمجة منظمة للرود وظيفة ترخيص دم الشعوب. محت الضربة الصاروخية الكاريكاتورية في العراق ملامح المحتجين والشهداء المقتولين على أيدي الميليشيات التابعة لإيران.

مات الشأن العام، وباتت الثورة خارج التداول ما يمهد تاليا لسحق أي موجة جديدة منها بشكل أكثر عنفا وراديكالية.

الأمر نفسه ينطبق على لبنان، حيث تتجه الأنظار إلى الحكومة المنوي تشكيلها، فبعد أن كان حزب الله يحاول مراضاة الرأي العام اللبناني المتماهي مع الثورة اللبنانية ضد منظومة السلطة بحكومة اختصاصيين، بات  التوجه حاليا يميل إلى تركيب حكومة سياسية بوجوه واضحة الانتماء والولاء للمنظومة الإيرانية، ما من شأنه أن يجعل النظام اللبناني بكامله ناطقا باسم إيران بشكل رسمي.

وكان لافتا في الفترة الأخيرة غياب الإعلام عن تغطية نشاطات الثورة اللبنانية بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الأزمات على جميع الأصعدة، والتصعيد الكبير والعنيف في وتيرة القمع، وكأن السلطة قد عاودت إمساك زمام المبادرة ووجدت في نفسها القدرة على سحق الثورة في الظلام.

 الأنظمة ما بعد مرحلة مقتل سليماني ستتغول، ليس على بعضها بعضاً كما يراد لنا أن نعتقد، بل على الشعوب وثوراتها.

 إيران أعلنت عبر حفلة المفرقعات الصاروخية الخلّبية أنها أنهت الرد على الأميركيين، ولكن الرد الدموي على الثوار في الداخل وفي المنطقة لا يزال مفتوحا ولا حدود له. المعادلة المرسومة حاليا، والتي يرجح أن تتضح ملامحها في القادم من الأيام، تتمثل في ترسيم حدود العلاقة مع أميركا بصفقات كبيرة تبقي الأنظمة وتهدر دماء الشعوب والثورات.

 

كلمات مفتاحية