"ما أضعفهم..! أغنية تهزّهم"

2020.05.05 | 00:05 دمشق

_112092987_chadi.jpg
+A
حجم الخط
-A

في هذا الكون الممتد، هناك دول وقعت "ضحية" المؤامرة الديمقراطية واعتنقت الممارسات السياسية التي تسمح بتناوب الأشخاص فيها، كما الأحزاب، على سدة الحكم وفي المجالس التشريعية والمحلية عبر صناديق الاقتراع فيما يسمى عندهم بالانتخابات، وذلك دون شرف المرور عبر الانقلابات الدموية التي يسميها مرتكبوها من العسكر وسواهم بالحركات التصحيحية أو الثورية.

في هذه الدول، تكون وسائل الإعلام حرة من كل القيود في حدود يضعها قانون مجمع عليه وشفاف، ويكون فيها التعبير عن الرأي بمثابة إغناء لنقاش عام وإثراء لشخصية وطنية متماسكة ومواطنة صلبة. لذا فمن المحتمل وبشكل شبه أساسي وحيوي أن تحفل وسائل الإعلام والتعبير هذه على أنواعها بمختلف أشكال النقد الموجه للسلطة التنفيذية أو لطرف سياسي معين أو لظواهر اجتماعية أو لمخرجات ثقافية، وصولاً إلى الملف الديني الشائك الذي لا يشكل التطرق له أي إحراج مهما كان المستوى مرتفعا والجرأة واضحة.

وعلى الرغم من عدم خلو الساحة في هذه الدول المصابة بوباء الديمقراطية من وجود تيارات محافظة ترفض هذه "الثقافة" التي لا تضع لنفسها حدودا ولا ممنوعات، خصوصاً في الشأن الديني، فإن رأيها، ولو استطاع لحجز له مكاناً في النقاش العام ، إلا أنه لا يتمكن من الغلبة في مواجهة قيم الحرية والديمقراطية الراسخة منذ قرون في بعضها وعقود في بعضها الآخر. بل حتى تستفيد بكل إمكانيات وأدوات حرية التعبير هذه التي تواجهها. وعلى هامش الحرية في التعبير فكراً وإعلاماً وثقافة، فقد تطورت أدوات السخرية بشكل واسع في هذه الدول. وبالتالي، اغتنت شاشاتها وصحفها وشبكاتها الافتراضية وإذاعاتها بالتجارب المتعددة في هدوئها أو في غلوائها نقداً وتهكماً وسخريةً وتعريةً لكل ما هو عام، وبالتالي، تفرض الديمقراطية أن يتقبل الانتقاد والسخرية.

أحياناً، وفي الأزمات خصوصاً، تُطرح أسئلة شائكة أمام ممارسي النقد والتهكم والسخرية، إن كان متاحاً ومقبولاً أن يتعرض ممتهنها إلى كل المواضيع والفئات والأشخاص، أو إن كان هناك حدوداً معينة يمكن التوافق عليها ضمن مجتمع المواطنة الصحيحة عبر النقاش المفتوح. إلا أنه غالباً ما كانت هذه الدعوات تلقى صدىً مُجمعاً عليه وذلك خوفاً من أن يتمكن البعض من التخفّي وراء حقٍ يُراد به باطل. وبالتالي، يمكن أن تتعرض حرية التعبير، من خلال بعض التحفظات، إلى التقييد أو حتى تصبح ضحية لانتهاكات متوارية خلف عناوين أخلاقية أو دينية.

في بريطانيا، وخلال ثمانينيات القرن المنصرم، اشتهر برنامج دمى تلفزيوني اسمه "الصورة المبصوقة" لم يترك أحداً من "شرّه" حتى الملكة. وكان يسبق النشرة الإخبارية الرئيسية على المحطة الممولة من المال العام، وهي في الدول الديمقراطية لا تسمى حكومية، إنما تدخل في إطار "الخدمة العامة". كما عرضت قناة فرنسية خاصة طوال سنوات عدة، برنامج دمى اسمه "الدمى السخيفة"، حيث تطرق مؤلفوه، بسخرية شديدة مصاحبة لعمق في التحليل السياسي، لكل الشخصيات الدينية والسياسية والثقافية، وكان لهذا البرنامج أثر هام في الحياة السياسية، لدرجة أن يسعى العاملون في الشأن العام لأن يكون لهم دمى ولو على حساب التشهير بهم والسخرية منهم.

أمثلة لا تنتهي في بحر من السخرية والتهكم حفلت به هذه الدول، لدرجة أن يتم دعوة بعض المهرجين السياسيين، وهي مهنة نبيلة لا علاقة لها بالسياسيين المهرجين، لأنها تجمع الإبداع الإيمائي بالنص الثري، لحضور مقابلة مع رئيس هذه الدولة وتقليده أمام الكاميرات وتحريض ضحك الملايين الذين منهم بالتأكيد الرئيس أو المسؤول نفسه. وينجر الأمر نفسه على الرسم الساخر والأغاني الساخرة والأدب الساخر والصحافة الساخرة. فصحيفة لو كانار اونشينيه، أي البط المقيد بالسلاسل، لا تنشر إعلانا تجارياً واحدا على صفحاتها، وتعيش فقط على حجم مبيعاتها، وهي مستمرة في الصدور منذ عقود. وعلى الرغم من خطابها الساخر فإنها كشفت الكثير من الفضائح السياسية وتلك المتعلقة بالفساد لدى المسؤولين وصولاً إلى الرؤساء ولم يسلم من "شرها" أحد. ولقد باءت كل محاولات البعض في رفع دعاوى بتهم القذف والتشهير بالفشل، لأنها لا تنشر إلا بالاستناد إلى وثائق وأدلة.

في الأنظمة المستبدة، يخاف الطغاة وعسسهم من الرسم، من الطرفة، من الأغنية، من القصيدة، من اللوحة، من المشهد، بقدر ما يخافون من الإنقلابات العسكرية. كما أن رجال الدين المتحالفين مع الاستبداد، يتحججون بالمقدس لمهاجمة السخرية وممارسيها. فرسم كاريكاتوري يتعرض للمقدّس حسب تقديرهم، قادر على تحريك الجموع الجاهلة أو المجهلة والمُقادة، في حين آلاف الضحايا في غزة وإدلب وحلب لا يمكن لهم أن يجمعوا العشرات احتجاجاً وتضامناً.

مات الشاب المصري شادي حبش، وهو مخرج ومصور، في معتقله نتيجة الإهمال الطبي. جريمته؟ إخراج لشريط أغنية ساخرة من الجنرال السيسي المنقلب على الشرعية في مصر. شادي البالغ من العمر 22 عاماً، اتهم بالـ "الانضمام لجماعة أسست على خلاف القانون ونشر أخبار كاذبة"، بالإضافة إلى اتهامه بـ "إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي". وحتى تاريخ وفاته مريضاً ملقياً في عتم الزنزانة، لم يُحاكم. إنهم يخافون حتى الأغنية.

كلمات مفتاحية